الانتخابات الفرنسية… تساؤلات حول تاريخ صلاحية أدوات الهيمنة
يقرّ الجميع بأن أوروبا تتحمل في الصراع الحالي تكلفة باهظة، وذلك على الرغم من الخلافات في تفسير أسباب وصولها إلى هذا المأزق، الذي يأخذ في الفترة الحالية شكل مصاعب اقتصادية، والتي ستتحول بالضرورة إلى اضطرابات اجتماعية وسياسية، ويمكن من خلال مراقبة التطورات السياسية- في بلدان أوروبا المؤثرة- فهم التحديات التي ستجابهها، ويمكن لنا أخذ الانتخابات التشريعية القادمة مثلاً على ذلك.
في الوقت الذي يقرّ الجميع بأن أوروبا تدفع ثمناً باهظاً في الصراع العالمي الحالي، يختلف هؤلاء في تفسير وصولها إلى هذا المأزق أصلاً! ولا يعترف معظمهم بأن الآثار الاقتصادية الكارثية التي تتحملها أوروبا لن تبقى في الميدان الاقتصادي، بل ستتحول عاجلاً أم آجلاً إلى حالة من الاضطراب الاجتماعي وعدم الاستقرار السياسي، فالسعي الأمريكي المستمر إلى توريط دول الاتحاد الأوروبي في مواجه شاملة مع روسيا والصين يهدف بوضوح إلى تدمير المنافسين وإزاحتهم عن الساحة العالمية، وفي الوقت الذي تظهر الدول الصاعدة- مثل: روسيا والصين والهند وغيرها- استجابة سريعة وجريئة في مواجهة هذه التحديدات، تقوم أوروبا في المقابل بالانجرار أكثر باتجاه الفخ الأمريكي، وتخدم النخب السياسية العاجزة في أوروبا هذا الاتجاه دون أن تبدي حتى اللحظة أية مقاومة تذكر، لكن ونظراً لأن الشعوب الأوروبية ستكون أولى ضحايا الاستراتيجية الأوروبية الحالية فبات من المتوقع أن تشهد دول أوروبا تصاعداً غير مسبوق في الحراك السياسي، وهو ما تدركه النخب الحاكمة في أوروبا، التي تدرك أيضاً أن قدرتها على الهيمنة والتحكم بالحياة السياسية باتت أضعف.
الانتخابات التشريعية
تتحضر باريس للانتخابات التشريعية بين 12 و19 حزيران الجاري بعد شهرين تقريباً من انتهاء الانتخابات الرئاسية، التي شهدت بدورها حالة من التجاذب العالي إلى تلك الدرجة التي كان من الممكن أن ينتقل فيها مرشح اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون إلى الجولة الثانية الحاسمة إلا أنه خسر بفارق ضئيل جداً أمام مرشحة اليمين المتطرف ماري لوبان. الانتخابات التشريعية القادمة بدأت تعطي مؤشرات جدية على حجم المواجهة السياسية المنتظرة، والتي يمكن أن تكون إحدى نتائجها وصول ميلانشون إلى منصب رئيس الوزراء مما سيكبل قدرة الرئاسة الفرنسية في كثير من المسائل، ويزيد من حدة المواجهة بين القوى السياسية وفي أجهزة الدولة أيضاً، بعد أن تنقسم الحكومة والرئاسة بين كتل سياسية متناقضة فعلياً،
وعلى الرغم من أن الحملات الانتخابية لم تبدأ بعد، ومن المقرر أن تنطلق غداً الإثنين 6 حزيران، إلا أن المعركة السياسية قد بدأت بالفعل، ففي الوقت الذي يسعى ميلانشون إلى إنشاء تحالف يساري واسع في مواجهة خصومه في اليمين والوسط، تسعى القوى الأخرى ومن ضمنها النظام الحاكم الفعلي للسيطرة على الأحداث ويمكن هنا الإشارة إلى مسألتين أساسيتين، الأولى: ترتبط بالنظام الانتخابي الفرنسي. والثانية: ترتبط باستخدام استطلاعات الرأي كواحدة من أدوات الهيمنة والتحكم بسلوك الناخبين.
النظام الانتخابي الخاص
تجري الانتخابات البرلمانية الفرنسية التي تعرف باسم «الجمعية الوطنية» ضمن 577 دائرة انتخابية «539 دائرة داخل فرنسا و27 في مستعمرات وراء البحار و11 للفرنسيين المقيمين في الخارج» وتخوّل كل دائرة الناجح فيها من الحصول على مقعد في البرلمان، ويشترط النظام الانتخابي الخاص في فرنسا أن يحصل الفائز على أغلبية الأصوات، وأن يختاره أكثر من 25% من الناخبين في الدائرة كحد أدنى للفوز في مقعد الجمعية الوطنية، وإذا لم ينجح أي من المرشحين في تحقيق هذه النسبة، فسيجري التصويت في جولة ثانية على المرشحين الذين حصلوا في الجولة الأولى على 12.5%.
ويجري منذ عقود حراك سياسي جدي لإحداث تغييرات في نظام الدوائر الانتخابية المعمول به حالياً، وتحديداً بسبب التفاوت في أعداد الناخبين بين الدوائر الكثيرة، مما يفسح مجالاً واسعاً من قبل النظام الحاكم للتحكم بالعملية الانتخابية عبر استنزاف القوى الأخرى، لتكون الـ 25% في إحدى الدوائر تتطلب عدد ناخبين أكثر من غيرها من الدوائر، وعلى الرغم من أن تعديلات قد جرت على هذه الدوائر، إلا أنها لم تمس جوهر القانون الانتخابي الذي يحتاج إلى نقاش منفصل بوصفه حالة فريدة لا توجد إلّا في فرنسا، لكن ما يهمنا الآن هو أن النظام الانتخابي ومئات الدوائر الانتخابية كانت دائماً عقبة أساسية أمام القوى السياسية القادمة من خارج المنظومة السائدة، وكانت إحدى الأدوات الفعالة في التحكم بنتائج العملية الانتخابية.
استطلاعات الرأي
يمكن لاستطلاعات الرأي أن تلعب دوراً كبيراً في التلاعب بوعي الناخبين ودفعهم «طوعياً» لاختيار مرشح النخب المالكة، ويمكن أخذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة في فرنسا كمثال واضح على عملية التلاعب هذه، فنشر وتداول نتائج «متوقعة» للانتخابات له تأثير واسع على الناخبين، وخصوصاً عندما تشير الاستطلاعات المنشورة إلى تقدم أو تراجع أحد المرشحين، فالناخبون يميلون في هذه الحالة إلى التفكير مجدداً في خياراتهم، فاستطلاعات الرأي أشارت وخلال فترة طويلة إلى أن حظوظ ميلانشون كانت متدنية كثيراً، وهو ما قد يدفع بعض مريديه إلى الابتعاد عنه، وهو ما يعرف باسم «التصويت النافع» أي عندما يشعر الناخب أن صوته الانتخابي سيهدر على مرشح خاسر، ولذلك يميل لاختيار أحد المرشحين المتصدرين. والمثير للانتباه في سلوك مراكز الاستطلاع هذه هي أنه مع اقتراب موعد الانتخابات تميل لتعديل توقعاتها، والتي يمكن أن تُرد إلى تغيير في مزاج الناخبين، ولكن تكرار هذه الظاهرة يعد مسألة مثيرة للانتباه، وتحديداً إذا ما أخذنا سرعة هذا التحول بعين الاعتبار! ففي الانتخابات الفرنسية الأخيرة رصدت استطلاعات الرأي عزم 22% من الناخبين لاختيار ماكرون، في مقابل 16% لماري لوبان و12% فقط لصالح ميلانشون، لتتحول هذه الاستطلاعات قبيل الانتخابات إلى أرقام قريبة جداً من النتيجة النهائية، وبتغير ملفت وسريع «في مزاج ملايين الناخبين حسب مراكز الاستطلاع دون تقديم تفسير واضح له! لتصل هذه التقديرات إلى 27% لماكرون «حصل على 27.85%» و23.7% للوبان «حصلت على 23.15%» و22% لميلانشون «حصل على 21.95%».
انتهاء صلاحية أدوات الهيمنة!
نجاح أدوات الهيمنة كان مرهوناً بالحفاظ على حجم المشاكل في عتبة معينة، وما أن بدأت هذه المشاكل بالازدياد فوق العتبة المذكورة حتى بدأت أدوات الهيمنة تفقد فاعليتها في هذه الظروف الاستثنائية، فاستطلاعات الرأي تشير إلى ارتفاع حظوظ قوى اليسار في الانتخابات التشريعية، واتسمت هذه الأرقام بحالة من الاستقرار النسبي خلال الأسابيع الماضية، في حالة مختلفة كلياً عن استطلاعات الرأي في الانتخابات الرئاسية، فلا تقلبات كبرى تُرصد في مزاج الجمهور اليوم! كل هذا يؤشر إلى حجم التهديدات التي تواجهها منظومة الهيمنة من جهة، والتي تجد نفسها مضطرة إلى الاقتراب من الحقيقية أملاً في الحفاظ على ثقة الجمهور لأطول فترة ممكنة، لتبقى سلاحاً نافعاً في جولات أخرى، وهو ما قد يفسر استقرار الاستطلاعات الآن التي يمكن ردها أيضاً إلى أن المعركة قد تكون حسمت بالفعل، وما هي إلى أيام وتظهر النتائج التي لن يكون بمقدورهم إخفاؤها. فقد ينجح تحالف ميلانشون بالسيطرة على أغلبية مقاعد البرلمان، وينجح بالتالي بالوصول إلى رئاسة الوزراء مما سيؤدي إلى تصاعد في حالة التجاذب السياسي القائمة فعلاً… كل هذا لا يتعدى كونها احتمالات، وستثبت الأيام القليلة القادمة أيّاً من هذه الاحتمالات أقرب إلى الواقع.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1073