بايدن: ثقوا بي روسيا ستغزو أوكرانيا في يومٍ ما!
بعد أن حددت الولايات المتحدة موعداً لبدء الغزو الروسي المزعوم لأوكرانيا في 16 من شباط الجاري، لم يكن أمام المراقبين إلا انتظار الموعد المعلن، وما أن انقضى هذا اليوم حتى ساد انطباعٌ عام بأن الأمور تتجه نحو التهدئة، وذلك على الرغم من الخروقات المتكررة التي تجري في شرق أوكرانيا، والخطاب الإعلامي التحريضي المستمر.
يبدو السبب الذي يمنع الاستفزازات في أوكرانيا من التحول إلى حرب شاملة لا يزال مجهولاً بالنسبة للبعض وخاصة أن الماكينة الإعلامية تحاول حتى اللحظة صرف الانتباه عمّا يجري فعلاً في أوروبا والعالم.
خلصت مادة سابقة نشرت في جريدة قاسيون بعنوان «ما الذي يمكن أن يوقف الحرب قبل ساعات من اندلاعها؟» إلى استنتاج مفاده: أن الضمانة الوحيدة لمنع الحرب هو إصرار موسكو على الاشتباك بشكلٍ مباشر مع الولايات المتحدة دون الغوص في مستنقع الصدام مع الدول الأوروبية، وأظهرت الأيام الأخيرة الماضية أن لدى الدول المؤثرة فعلاً في أوروبا رغبة حقيقية لتجنب الصدام مع روسيا، كونهم يدركون حجم الكارثة التي يمكن أن تلحق بهم إذا ما حصل هذا الاشتباك فعلاً. ولكن وعلى الرغم أن ما سبق بات واضحاً بشكلٍ جلي إلا أن أوكرانيا تشهد حتى اللحظة محاولات للتوتير مما يشوش رؤية البعض.
الولايات المتحدة والتحريض المستمر
المثير للاهتمام، أن الولايات المتحدة وبريطانيا تقومان حتى اللحظة بالتحذير «من خطر الغزو الروسي الوشيك»، فبعد أن حذر الرئيس الأمريكي من أن موعد الغزو المفترض هو 16 شباط، عاد في 18 لتقديم مواعيد جديدة، ولكنه تجنب هذه المرة ذكر تاريخ محدد، بل بات يستخدم تعبيرات فضفاضة أكثر مثل: «الأسبوع المقبل» أو «الأيام القليلة القادمة»، وذهبت بريطانيا إلى سلوك متطابق مع السلوك الأمريكي المذكور، فصرّحت وزيرة الخارجية البريطانية اليوم 20 شباط، بأن «أسوأ سيناريو لتطور الأحداث، يمكن أن يحدث في الأسبوع المقبل» وتضاف إلى تحديد هذه المواعيد الكاذبة ممارسة نوع من التصريحات والتحركات المريبة والأعمال الاستخباراتية الخبيثة التي يقرؤها البعض بوصفها مؤشرات بدء الحرب المتوقعة، في الوقت التي يتضح مع الوقت أنها جزء من حملة التضليل الممنهجة، والتي بات يقودها رأس الهرم الغربي «في واشنطن» بشكل مفضوح، فقام بايدن على سبيل المثال بقطع زيارته إلى أوهايو بسبب «حدث طارئ صغير في أوروبا»، وصرح أيضاً بأنه يرى أن مغادرة الرئيس الأوكراني للبلاد لحضور مؤتمر ميونخ للأمن الذي انعقد في الفترة بين 18 و20 الشهر الجاري، بوصفها خطوة غير حكيمة، لأن الرئيس الروسي يمكن أن يستغل فرصة غياب الرئيس الأوكراني حسب بايدن، وجرت إلى جانب هذه التصريحات بعض الأعمال المجهولة، مثل: الهجوم الإلكتروني الذي تعرضت له وزارة الدفاع الأوكرانية في يوم 15 شباط، تماماً مثلما تنبأت واشنطن بفرق أنه لم يكن تمهيداً للغزو الروسي المزعوم، بل ربما كانت محاولة أمريكية لدفع أوكرانيا للقيام بحماقات عسكرية.
لا شك أن واشنطن تدرك أثر هذا السلوك على مصداقيتها في العالم، وتحديداً بالنسبة لحلفائها الغربيين، ولكن الواضح أن الحاجة إلى الحرب باتت أكثر من أن يتم استيعابها ضمن حدود البروتوكولات الدبلوماسية، فالرئيس الأوكراني شكك بشكلٍ غير مباشر بمصداقية معلومات الاستخبارات الأمريكية، لا بل اعتبر أن الاستخبارات الأوكرانية مرجعه، وهي من يحدد تحركاته في رده على انتقادات السفر التي وجهها بايدن. في خطوة مثيرة للضحك فعلاً، فالأطراف التي تروج واشنطن أنها تستعد لخوض حربٍ مصيرية تتصرف بشكلٍ مختلف في الواقع، ولكن هذا لم يعد مهماً بالنسبة لواشنطن، التي باتت تتصرف على أساس أنها قادرة على خلق حربٍ في الإعلام، والتصرف كما لو أنها قائمة فعلاً حتى لو كانت مجرد أكاذيب.
ماذا عن التصعيد في الدونباس؟
القول بأن احتمالات تحول التوتر الحالي إلى حرب شاملة لا يلغي أن درجة التوتر باتت مرتفعة جداً في منطقة الدونباس، فحسب بعثة المراقبين الخاصة التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، فقد وصل عدد الانتهاكات مؤخراً إلى أكثر من 870 انتهاكاُ في الفترة الماضية، ويجري حسب تصريحات رسمية إجلاء المدنيين إلى روسيا من جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك المعلنتين ذاتياً، وقد تم إجلاء الآلاف حتى اللحظة، ومعظمهم من النساء والأطفال، وتقوم روسيا بتحديد مناطق لاستقبال الأعداد المتزايدة من النازحين.
تشكّل هذه الأحداث مؤشرات حقيقية على ارتفاع احتمالات التصعيد، وهي أمرٌ متوقع، فالحرب لم تهدأ فعلياً في هذه المناطق منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، وعلى الرغم من أن التطورات الأخيرة تعتبر تطورات نوعية، إلّا أنها لن تخرج عن سياق الأزمة الأوكرانية الداخلية، ما لم تدخل روسيا بشكل مباشر وواسع بصدام عسكري مع أوكرانيا، وهو الاحتمال المستبعد، حتى أن عمليات إجلاء السكان المدنيين من شأنها أن تخفف الضغط على روسيا إذا ما تعقدت الأوضاع الميدانية وازدادت وتيرة الأعمال العسكرية، فتعريض السكان المدنيين للخطر يعتبر أحد السيناريوهات التي تعوّل عليها واشنطن لتوريط روسيا في حرب مفتوحة مع أوكرانيا، وخصوصاً أن معظمهم ينتمون إلى القومية الروسية.
التحركات الروسية أوسع من حدود أوكرانيا
ينبغي التأكيد مجدداً، أن ما يجري أوسع بكثير من حدود أوكرانيا، وهذا ما يجعله مركز الاهتمام الكبير، ففي تصريحات لوزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك أنه «مع نشر غير مسبوق لقوّات على الحدود مع أوكرانيا ومطالب تعود إلى الحرب الباردة، تتحدى روسيا المبادئ الأساسيّة لنظام السلام الأوروبي» والمثير للانتباه في هذه التصريحات، اعتبار أن ما جرى في الحرب الباردة صفحة جرى طيها منذ زمن! في الوقت الذي تعد فيه نتائج هذه الحرب هي موضوع التصعيد الأخير، فإن كانت حدود الحرب الباردة بين الغرب وروسيا هي الجدار الفاصل بين ألمانيا الشرقية والغربية في ذلك الحين، فهي اليوم الحدود المباشرة لروسيا مع أوكرانيا، أي أن العقود التي تلت الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي سمحت للولايات المتحدة بالتوسع شرقاً إلى تلك الدرجة التي لم يعد بالإمكان قبولها روسياً، وخصوصاً بعد أن استطاعت روسيا تجاوز الكثير من أسباب تراجعها في تلك الحقبة. وهذا ما يجعل هذه المطالب الروسية شديدة الراهنية بالنسبة لموسكو، وتشكّل الضمانات الأمنية هذه شرطاً ملزماً بالنسبة لروسيا، ولذلك تحرص موسكو مجدداً على توسيع نطاق الاشتباك لا حصره ضمن أوكرانيا، فالتحرّكات العسكرية الروسية في البحر المتوسط، وزيارة وزير الدفاع الروسي إلى سورية، تؤكد مجدداً أن «الخطوات العسكرية التقنية» التي سترد فيها موسكو على تجاهل الغرب لمطالبها أوسع بكثير من خط الحدود مع أوكرانيا وهو ما يضع التوسع الأمريكي المفرط في العالم على المحك، مما يجعل إصرار بايدن على قول الأكاذيب خسارة صغيرة في سبيل تجنب تلك الخسارة الأكبر.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1058