مستقبل البشرية إلى أين؟ عرض وقراءة في طرح أندريه فورسوف 2/3

مستقبل البشرية إلى أين؟ عرض وقراءة في طرح أندريه فورسوف 2/3

ما الذي يجري في العالم اليوم؟ وكيف يمكن الخروج منه؟ كثيرون يبحثون عن أجوبة عن هذه الأسئلة الكبيرة ويصطدمون بمجموعة من الأجوبة التي تسوقها وتروجها مجموعة من النخب العالمية من أمثال الاقتصادي ورجل الأعمال الألماني كلاوس شفاب، الذي يروج لما يسميه «إعادة الضبط العظيمة»، وفي المقابل يقدم مجموعة من الباحثين قراءات أخرى متمايزة، تستند إلى إرث معرفي كبير، وفهم عميق لجوهر النظام الرأسمالي العالمي.

نعرض فيما يلي الجزء الثاني من القراءة التي يقدمها البروفيسور أندريه فورسوف الباحث بالعلوم التطبيقية والأساسية، والتي قام بتكثيفها بمحاضرة أكاديمية مسجلة في جامعة موسكو للعلوم الإنسانية في تشرين الثاني من عام 2021، والتي نشرتها «قاسيون» بعد ترجمتها عن الروسية على قناتها الرسمية على موقع يوتيوب.

الرأسمالية تفكك نفسها!

يجيب البروفيسور عن سؤال مهم، وهو: ما الذي يدفع الرأسمالية اليوم لتفكيك نفسها؟ فيقول: «هنا يظهر السؤال التالي، كيف وصلت المنظومة الرأسمالية لمثل هذا الواقع؟ حيث أعلى الهرم في النظام الرأسمالي- رغم أنه يبدو تناقضاً حاداً لكنه هكذا في جوهره- يطرح قضية تفكيك الرأسمالية، إضافة إلى أن هذه القضية كانت قد طرحت في نهاية الستينيّات وبداية السبعينيّات من القرن الماضي، حيث ظهرت منذ ذلك الوقت أولى التقارير التي تتحدث عن ضرورة الحد من الاستهلاك، وتقارير مؤتمر روما حول تفكيك الديمقراطية، وفي المحصلة نلاحظ أمراً مثيراً للاهتمام، ففي آخر 50 عاماً، نخب المنظومة الرأسمالية يقومون بتفكيكها... للوهلة الأولى يبدو هذا غريباً جداً! هل قرروا أن يصنفوا أنفسهم اشتراكيين؟ لكن في الحقيقة إذا ما نظرنا لتطور الرأسمالية فكل شيء عندها سيصبح مفهوماً». يشير فورسوف إلى بعض المفاهيم الأساسية التي علمنا إياها علم الاقتصاد السياسي الماركسي، فيقول: كي نفهم أيّة منظومة اجتماعية علينا أن نفهم ما هو مكمن الملكية (الاستغلال) الأساسي في هذه المنظومة، ما المملوك الأساسي؟ إذا كانت الأرض في هذه المنظومة هي مصدر الملكية فهذه المنظومة هي إقطاعية، أما إذا كانت جسد الإنسان تكون العبودية. أما إذا كان المستَغلّ هو عمل الفرد بشكل عام فهي المنظومة الرأسمالية إذاً، لفهم أية منظومة علينا إدراك ما هي الملكية الرئيسية فيها لأنه وفقاً لهذا ندرك عندها من هم المستَغِلّون ومن هم المستَغَلّون، مثلاً: هذه الأرض لي أما أنتم فلا أرض لكم إقطاعي وقن، مالك وعبد الأمر بسيط للغاية إذاً، كما قلنا أية منظومة تتحدد من خلال فهم الملكية الأساسية فيها، وكل ما تبقى هو تفاصيل يمكن أن تكون هناك نقود، ويمكن ألّا تكون. والتحكم أيضاً يمكن أن يكون مختلفاً، يمكن أن يكون التحكم مباشراً على جسد الإنسان، ولكن عندما يكون التحكم في المنظومة بسلوك الإنسان، ما هذا؟ لا شيء هنا، حسناً لا يوجد لدي أية أراضٍ، لا شيء، لكني أتحكم بسلوككم، على سبيل المثال: إذا ما قمتم بشيء لا يعجبني أقوم بالضغط على زر فأصعقكم بالكهرباء، أنا أسيطر على سلوككم. فماذا تكون هذه المنظومة التي لا تتحكم بالأرض، ولا برأس المال، وإنما بسلوك البشر؟

1053-8

نظرة سريعة على تطور الرأسمالية

لماذا كان الكثير من الناس في نهاية القرن العشرين قد توصلوا إلى قناعة أن الرأسمالية استنفدت نفسها، ويجب استبدالها بشيء آخر، على الأقل النخبة الغربية فهمت هذا الأمر بشكل جيد، دعونا ننظر لمنطق تطور المنظومة الرأسمالية… منشأ الرأسمالية يعود إلى منتصف القرن 15 وحتى منتصف القرن 17 كما علّمنا هيغل عندما تبدأ الظاهرة بالنشوء لا تكون قد وجدت بعد، إذاً، المنشأ يختلف عن المراحل الأولى، المراحل الأولى للرأسمالية هي من منتصف القرن 17 وحتى نهاية القرن 18، هذه مرحلة الرأسمالية ما قبل الصناعة، حتى الآن كل شيء جيد، ثم تحصل ثورة ثلاثية في نهاية القرن 18 وبداية القرن 19 ثورة صناعية في إنكلترا، هذا في الاقتصاد، وثورة سياسية في فرنسا، وثورة فكرية في ألمانيا تمثلت بالفلسفة الكلاسيكية الألمانية، مثل: كانط، وفيخته، وشيللينغ، وهيغل. حسناً، تحصل الثورة، وتبدأ مرحلة التطور الناضج للمجتمع الرأسمالي، وتستمر الثورة الصناعية حتى نهاية، عفواً بل حتى بداية القرن 20، في حقيقة الأمر الرأسمالية هي منظومة تتطور على نطاق واسع مثل المنظومة العبودية، لكن ليست مثل المنظومة الإقطاعية. كيف صممت الرأسمالية؟ ما إن يبدأ معدل الربح العالي في المنظومة الرأسمالية بالهبوط حتى تبدأ الرأسمالية بالتوسع واقتطاع أجزاء من المناطق غير الرأسمالية وتحوِّلُها إلى جزء من فضائها، مما يعني منطقة حيث العمالة رخيصة، ومنطقة للحصول على المواد الخام، فيعود معدل الربح العالي للارتفاع، لكن في نهاية القرن 19 كان كل العالم قد تمّ تقاسمه، وبعدها أقوى الدول الاحتكارية لم يكن بإمكانهم الصراع على مناطق النفوذ، فهي سبق وأصبحت متقاسَمة ومتَحكَّم بها، اتضح الآن أنه يمكن فقط ترتيب العلاقات داخل المنظومة الرأسمالية، مما يعني شيئاً بسيطاً للغاية، في نهاية القرن 19 وبداية الـ 20 الرأسمالية كمنظومة اقتصادية استهلكت نفسها، ليس لأنها معطوبة، بل على العكس لأنها مفرطة في الديناميكية، الرأسمالية عاشت تاريخها، لكن حرفياً في نهاية القرن 19 توقفت الديناميكية الاقتصادية، مما يعني أننا الآن يمكننا أن نتطور فقط من خلال ترتيب العلاقات بين الأجزاء المتطورة صناعياً في قلب المنظومة. ما الذي رأيناه في القرن العشرين؟ كيف كانت ديناميكية الرأسمالية؟ الحرب العالمية الأولى دمرت المخزون الصناعي لبضعة دول، مما جعل الاقتصاد العالمي في الثلاثينيّات والأربعينيّات ينمو على أساس إعادة بناء هذا القسم، حسناً أعادوا البناء، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية ودمرت المخزون الاقتصادي للاتحاد السوفييتي، ألمانيا، وإلى حد كبير في إيطاليا واليابان، كيف تطور العالم من منتصف الأربعينيّات وحتى بداية الستينيّات؟ المعجزة السوفييتية، المعجزة اليابانية، المعجزة الإيطالية المعجزة الألمانية. لمدة عشرون عاماً نما العالم بفضل إعادة بناء الصناعة حتى منتصف الستينيّات تم إعادة بناء كل شيء، بدأ النمو يتباطأ وحرب جديدة غير ممكنة بسبب وجود الأسلحة النووية.

1053-21

مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية

يحاول الفيلسوف الروسي أن يحدد ملامح المرحلة التالية، تلك التي تلت وصول الرأسمالية إلى طريق مسدود بسبب الرادع الذي شكله السلاح النووي بوجه احتمال اندلاع حرب عالمية جديدة، فيرى فورسوف أن نخب العالم الرأسمالي اتجهت نحو كبح التقدم في جميع المجالات، ويقول موضحاً: «إن العلم يعني تقدم، يعني تطور بينما ما كانت تحتاجه النخبة هو العكس تماماً، انتبهوا في النصف الأول من القرن العشرين كانت هناك سلسلة من الاختراعات والاكتشافات، لكن بأي الاختراعات التكنولوجيا يمكننا التفاخر في النصف الثاني من القرن العشرين؟ إنهم بالمناسبة فقط ثلاثة الهاتف النقال، الإنترنت، والكمبيوتر الشخصي، وكلها بالمناسبة متعلقة بالتحكم بالبشر» «ويوضح فورسوف أن الهدف الذي وضع كان «تغيير الوعي» وهنا يشير للمهمة التي وضعها» معهد الإنسان «في انجلترا في نهاية الستينيات، والتي تقول بوجوب» اجتثاث التفاؤل الثقافي للستينيات... انظروا النخبة الغربية سارت وفق طريق بسيط للغاية، بدأت بكبح التقدم العلمي التقني الصناعي ولكن من أجل القيام بهذا الشيء كان لا بد من إثباته، وفي الستينيّات بدأت تظهر الحركات البيئية، يجب عدم الخلط بين أمرين مختلفين، لدينا نشاطات الحفاظ على البيئة، وهي عمل نبيل وجيد جداً، وهنالك المعتقد البيئي كإيديولوجيا، وهذه الإيديولوجيا تقترح تخفيض عدد سكان الكوكب إلى ملياري إنسان. بمعنى إبادة جماعية بحجة بيئية مخملية، هذه الإيديولوجيا تساوي بين الإنسان وباقي الكائنات البيولوجية، أي إنها تفترض مثلاً: أن أي نوع من العناكب إذا ما ضغط عليه الوجود البشري فهو لديه الحق بالوجود مثله مثل الإنسان، أي إن الحركات البيئية وُجهت كأداة لإيقاف التقدم الصناعي، وخلق ما يسمى نادي روما والذي اقترح في أول تقاريره مبدأ النمو الصفري، أي 50% تذهب لتمويل الصناعة و50% للبيئة، أي كبح النمو، كانت هناك حاجة للاستراحة، حاجة لفهم ما الذي يجب فعله، لكن كانت ما تزال هناك مشكلات الاتحاد السوفييتي، كان يجب ألّا يستفيد من هذا الكبح، ولذا اقترح على الاتحاد السوفييتي المشاركة في هذه المشاريع البيئية الخاصة بنادي روما وبشكل عام في مجموعة أخرى من المشاريع. والنخبة السوفييتية وقعت في هذا الفخ لأسباب، وذلك لأسباب ذاتية ترتبط بطبيعة المرحلة. مما أدى في المحصلة إلى وقف التقدم العلمي والتقني منذ منتصف الستينيات.

1053-9

نهاية التاريخ أم «نشوة السرعوف»

على الرغم من وقف التطور إلا أن النتائج لم تكن على المستوى المطلوب، فيعرض فورسوف أن مجموعة من الباحثين (السوفييت والغربيين) قد وصلوا إلى النتيجة ذاتها، وهي اقتراب أزمة جديدة تعصف في الرأسمالية والتي ستكون نتائجها أكثر كارثية على المعسكر الغربي بالمقارنة مع المعسكر الشرقي الذي يملك مقومات تحصنه أكثر من غيره، وعلى هذا الأساس أشارت التقديرات إلى أن الرأسمالية كمنظومة ستنهار في نهاية القرن العشرين، ويضيف أندريه فورسوف «ثم بدأ توالي الأحداث تماماً وفقاً للتوقعات، عام 1987 في 19 تشرين الأول انهارت سوق الأسهم في نيويورك، انهار في يوم واحد على مؤشر داوجونز 508 نقطة أو 22,3% ، في ذلك الوقت كان هذا رقماً قياسياً، أرسلوا وراء غرينسمان الذي كان يترأس النظام الاحتياطي الفدرالي، وقد قال فقط: المعجزة يمكن أن تنقذنا، وهذه المعجزة كانت انهيار الاتحاد السوفييتي لأنّ الشيء الأساسي الذي قدمه انهيار الاتحاد السوفييتي للغرب هو سوق المبيعات، فكل القمامة الغربية الرخيصة تدفقت إلى هنا، وبدأ نهب المنظومة السوفييتية، واستمر هذا النهب حتى عام 2008» ويشير البروفيسور في السياق ذاته إلى الأرقام التي تعكس معدلات النهب، فـوفقاً لتقرير اليونيسكو عام 2002 حول الفقر، كانت الأرقام كالتالي، في عام 1989 في أوروبا الشرقية وضمناً الجزء الأوروبي من الاتحاد السوفييتي كان عدد الفقراء 14 مليون إنسان، وبعد مرور سبع سنوات في عام 1996 أصبحوا 168 مليون فقير- في تقرير اليونيسكو تم ذكر أن هذا كان أكبر مذبحة للطبقة الوسطى في كل التاريخ.
في عام 1991 كثيرون في الغرب وفي مناطق الاتحاد السوفييتي السابقة افترضوا أنه الآن ستبدأ مرحلة رأسمالية جديدة ووحيدة، فوكوياما كتب في عام 1992/ 1993 كتابه «نهاية التاريخ»- وقد قصد أنه ستبدأ «حقبة الحرية» بالنسبة لي هذا أمر غريب للغاية، لأنه ومن حيث المبدأ فإن الأشخاص الذين يفهمون الاقتصاد السياسي في الرأسمالية، كان مفهوماً لديهم بشكل عام أن انهيار الاتحاد السوفييتي هو بداية لنهاية الرأسمالية، التي يمكن لها فقط أن تؤخر قليلاً هذه النهاية، إن انهيار الاتحاد السوفييتي هو بداية النهاية للرأسمالية، وهذا ما جرى لا داعي هنا لفكر حاذق يكفي الاستيعاب الجيد للاقتصاد السياسي للرأسمالية، ومنطق النظام الرأسمالي للفهم أن انهيار الاتحاد السوفييتي سيؤخر فعلاً موت الرأسمالية، ولكنه سيؤخره حرفياً لأقل من حياة جيل واحد حتى، لكن الناس لم تفهم هذا بل استمروا بالاحتفال، في كتابي الذي أسميته «نشوة السرعوف» شرحت الفكرة حول أن بعض أنواع السراعيف تقوم لديها الأنثى أثناء الجماع بأكل رأس الذكر، ثم يستمر هذا لنحو 4 أو 5 ساعات إنه ميت سلفاً، ولا فكرة لديه أنه بلا رأس، أي أنه جثة، ولكن يقوم ببعض الحركات بشكل انعكاسي، وهذا هو انطباعي أنه في عام 1991 لدى قسم كبير من البشرية، كانت قد أكلت الرأس، لكنهم لم يفهموا أنهم في الواقع حصلوا بناء على انهيار الاتحاد السوفييتي على 10 إلى 15 عام من الحياة، وهذه المدة ستنتهي وقد انتهت بالفعل عام 2008 حيث بدأت ارتجاجات الأزمة.

مستقبل البشرية إلى أين؟ عرض وقراءة في طرح أندريه فورسوف 1/2

معلومات إضافية

العدد رقم:
1053
آخر تعديل على الخميس, 20 كانون2/يناير 2022 18:33