مستقبل البشرية إلى أين؟ عرض وقراءة في طرح أندريه فورسوف 1/2

مستقبل البشرية إلى أين؟ عرض وقراءة في طرح أندريه فورسوف 1/2

ما الذي يجري في العالم اليوم؟ وكيف يمكن الخروج منه؟ كثيرون يبحثون عن أجوبة لهذه الأسئلة الكبيرة ويصطدمون بمجموعة من الأجوبة التي تسوقها وتروجها مجموعة من النخب العالمية من أمثال الاقتصادي ورجل الأعمال الألماني كلاوس شفاب، الذي يروج لما يسميه «إعادة الضبط العظيمة»، وفي المقابل يقدم مجموعة من الباحثين قراءات أخرى متمايزة، تستند إلى إرث معرفي كبير، وفهم عميق لجوهر النظام الرأسمالي العالمي.

إحدى هذه القراءات الموسعة كانت تلك التي يقدمها البروفيسور أندريه فورسوف الباحث بالعلوم التطبيقية والأساسية، والتي قام بتكثيفها بمحاضرة أكاديمية مسجلة في جامعة موسكو للعلوم الإنسانية في تشرين الثاني من عام 2021، والتي نشرتها «قاسيون» بعد ترجمتها عن الروسية على قناتها الرسمية على موقع يوتيوب.

يقدم فورسوف بدرجة عالية من الاتساق رداً على ما تُسوقه النخب العالمية اليوم في تفسيرها لما يجري، ويناقش بشكل موسع تلك السيناريوهات التي يرى فيها «كبار الملاكين» في العالم المخرج الوحيد من أزمة الرأسمالية النهائية. ويحدد من وجهة نظره العقبات التي تواجه هذه الاحتمالات، وفرص نجاحها الفعلية بعد أن يوصف طبيعة الصراع العالمي الدائر حالياً.

قراءة تمهيدية

على الرغم من أن أفكار فورسوف يجري وضعها ضمن عرض تاريخي منظم سهل التتبع، إلا أنها تبدو عصية على الفهم بالنسبة لشريحة واسعة من الجمهور، ولذلك ينبغي الإشارة إلى نقطتين أساسيتين، الأولى: هي أن محاضرة فورسوف تقدم لمختصين كجزء من دراستهم الأكاديمية، ولذلك ينطلق البروفيسور من أن المحاضرة موجهة لمستمعين يملكون أساسات البناء الذي يعرضه فورسوف، والنقطة الثانية: يعتمد البروفيسور الذي درس في الحقبة السوفيتية في معهد بلدان آسيا وإفريقيا على معرفته المعمقة في الماركسية، وبحثه الموسع في أبرز إسهاماتها، وهو «الاقتصاد السياسي الماركسي». الذي يسهب في الحديث عن المعركة التي شنت ضده، وكيف جرت محاولة تغييبه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، كل هذا يجعل من محتوى المحاضرة مادة دسمة تحتاج لقراءة نقدية معمقة.
تقدم المحاضرة فكرة جوهرية في قراءة التطورات التي يشهدها العالم منذ وباء كوفد-19 فلا تحاول تقديمه بوصفه «كذبة كبرى» بل ترى فيه- ضمن سياق محدد وتحديداً مع كل الإجراءات المرافقة له- حجر الأساس في الاستراتيجية التي يعمل عليها كبار المالكين في هذا العالم. فحسب فورسوف شكّلت الماركسية مادة دسمة بالنسبة للنخب العالمية، وفي الوقت الذي جرى تشويهها وتغيبها في كثير من بقاع العالم، جرى العكس تماماً في أرفع مراكز الأبحاث الغربية والتي انكبت على دراستها، لا بهدف قيادة الطبقة العاملة نحو تشكيلة اقتصادية- اجتماعية أرقى من الرأسمالية تنهي الاستغلال، بل لهدف مغاير تماماً، وهو الدفع باتجاه ما أسماه «مرحلة ما بعد الرأسمالية» والتي تقوم على أساس استخدام سلاح البروليتاريا ضدهم، والتحكم بالعالم من مركز واحد عابر للدول. تجري فيه عملية واسعة للتحكم بسلوك الأفراد بعد تجريدهم نهائياً من كل ما يملكون.
تقدم قاسيون في القسم الأول من هذه المادة، عرضاً موجزاً لبعض ما جاء في محاضرة البروفيسور أندريه فورسوف على أن تستكمل العرض في العدد القادم مصحوباً بتعليق نهائي على ما جاء فيها:

كورونا بوصفه الزناد

يبدأ فورسوف الحديث من جائحة فيروس كوفيد- 19 «القضية لا تتعلق فقط بكوفيد-19، فأسعار المواد الغذائية ترتفع في كل العالم، وكذلك الطاقة الكهربائية، أي إنه قد تفعَّل كمبدأ أحجار الدومينو، والمختصون قالوا منذ البدء إن كورونا ليست سوى البداية، إنها بمثابة الزناد أو زر الإطلاق». ليرصد بعدها مجموعة من القراءات الباكرة لما شهده العالم، والتي سبق بعضها ظهور الفيروس نفسه، وكان أبرزها ما قاله الاقتصادي ديفيد بايكر الذي كتب في 2 كانون الثاني 2020 حسب ما نقل فورسوف «لدى البشرية في عام 2020 مهمة واحدة، ببساطة البقاء على قيد الحياة… ركود مستوى الدخل الحقيقي، انخفاض مستوى المعيشة للطبقات الدنيا والمتوسطة زيادة عدم المساواة بالرفاهية، وأعمال شغب وانتفاضات جديدة، واستمرار الاستقطاب السياسي، وتنافس حاد بين نخب كثيرة على مواقع محدودة في السلطة، واستمالة النخب من قبل الحركات الراديكالية واستمالة الحركات الراديكالية من قبل النخب. وبفضل العولمة فإنّ كل هذا يجري ليس في بلد واحد فقط، وإنما في معظم دول العالم، ونرى أيضاً إعادة هيكلة جيو- سياسية وتقسيم العالم لتحالفات وتكتلات جديدة، وهنالك أيضاً احتمال معقول لحدثٍ صادمٍ يلعب دور الصاعق كأزمة بيئية مثلاً، والتي ستشكل بدايةً لعنف شديد وثمة حظوظ أقل بكثير بأن نرى قفزة تكنولوجية كالثورة الصناعية التي يمكن أن تخفّف الضغط في عقد العشرينيات وعكس مسار الاتجاهات المذكورة أعلاه عادة، كانت مراحل الركود كهذه تقتل وسطياً خُمس سكان العالم، اليوم تعني هذه النسبة على مقياس عالمي إمكانية مقتل ما بين 1,6 إلى 1,7 مليار إنسان». ما أثار انتباه فورسوف أن كلام بيكر هذا كان يحمل الكثير من الاستشراف لما سيحدث في الأشهر القادمة، ويقول معلقاً: «الحدث الذي لعب دور الصاعق أصبح كوفيد، وبشكل أدق تلك الإجراءات التي تم اتخاذها، والمُبَالَغ بها في نواحٍ كثيرة لمحاربة الوباء، لا أحد ينكر وجود الوباء، لكن يجب أنْ نتذكر أنّه في عام 2013 منظمة الصحة العالمية والتي تُعَدّ من أكثر المنظمات فساداً بالعالم، والتي تموَّل من قبل صندوق غيتس وصندوق روكفيلر، لذلك فعندما يقال لدينا أن كبير أطباء الصحة العامة في روسيا سيقوم وبتوجيه من منظمة الصحة العالمية بفرض مجموعة من الإجراءات، فهذا يعني أن هذين الصندوقَين يوجِّهان منظمة الصحة، ومنظمة الصحة توجّه كبار أطباء الصحة العامة حول العالم، لدي سؤال: أين الحكومات؟ أين الرؤساء؟ إنهم ولسبب ما يقفون باستعداد ويقولون: حاضر سيتم التنفيذ».

1052-3

مؤتمر سانتا في والسيناريوهات المحتملة

يشير فورسوف في محاضرته إلى نقطة بارزة في تسلسل الأحداث، وهو المؤتمر الذي أعدته ونظمته وكالة الأمن القومي الأمريكي «NSA» والذي عقد في عام 2018 في معهد متخصص بالنظم الكيفية المعقدة، في مدينة سانتا في، عاصمة ولاية نيومكسيكو الأمريكية، وقد حضر هذا المؤتمر المغلق كبار المسؤولين والمدراء التنفيذيين لكبرى الشركات وأعضاء الاستخبارات، وجرى تقديم 6 تقارير لنقاش جملة من القضايا المطروحة «تقرير عام- تقرير اقتصادي- تقرير حول الصناعة- تقرير حول مخاطر الذكاء الصناعي- تقرير حول المناخ- تقرير حول الديموغرافية»، والتي حملت في معظمها جملة من الأفكار الهامة والصادمة على كافة المستويات، ولكن الأكثر إثارة للاهتمام في وقائع هذا المؤتمر هي «سيناريوهات التطور العالمي» التي جرى نقاشها في يومه الأخير. وجرى استطلاع آراء كل الحاضرين حول السيناريوهات التي يرونها الأكثر ترجيحاً، وتكمن أهمية هذا الطرح من طبيعة الأشخاص الذين يحضرون هذه المناسبة الخاصة، وهم الأشخاص الأكثر نفوذاً، والذين يستطيعون تحديد الإستراتيجيات العامة التي يمكن اعتمادها في الفترات القادمة.
جرى تقديم أربعة سيناريوهات، وعرضها فورسوف في محاضرته بشكل موجز: «السيناريو الأول: اعتبر متفائلاً دار الحديث هنا عن أن البشرية ستتمكن من التغلب على الوضع الذي وقعت فيه. السيناريو الثاني: اعتبر ثورياً، حيث البشرية لن تتمكن فقط من التغلب على هذا الظرف، بل وستتمكن من تحقيق خرق ثوري باتجاه المستقبل. استطلاع آراء جميع المشاركين في هذا المؤتمر في سانتا في أظهر أنهم يستبعدون هذين السيناريوهين، وذلك لسببين، الأول: تدني مستوى القاعدة المعرفية الثقافية للنخب في الغرب المعاصر، وأما السبب الثاني: فيرد إلى أن آخر مئة عام بتاريخ الغرب تمت قولبة الإنسان وفق نموذج ثابت مطيع للقانون غير مؤهَّل للقيام بأية أفعال حادة، وغير قادر على تحمل المسؤولية، سواء كانت هذه المسؤولية هي الزواج أو غيرها، هذا الإنسان، كما تمت تربيته في منظومة اختبارات المدرسة غير قادر على اتخاذ القرارات، ولهذا فإن كلا الخيارين المتفائل والثوري غير واردين. أما السيناريو الثالث الذي تم اقتراحه: هو «الكارثة» والذي تم ترجيحه من قبل 55 من المشاركين، ولكنهم في الوقت عينه أكدوا أنه يجب أن تتم إدارة الكارثة، أي الفوضى المتحكم بها، وفي النهاية السيناريو الرابع والأخير، الذي بالنسبة لي هو الأكثر إثارة للاهتمام وفي الوقت نفسه هو الأكثر شؤماً، وهو: الانتقال أو التحول الأنثروبولوجي والذي حظي بترجيح 25% من المشاركين، هذا التحول الأنثروبولوجي، انتبهوا هو تحول أنثروبولوجي، ليس اجتماعياً، وإنما أنثروبولوجيّاً. الحديث دار حول تشكيل ذاك المجتمع الذي تتمايز فيه القمة عن القاعدة كنوعين مختلفين أنثروبولوجياً وبيولوجياً، بمعنى أن من هم فوق يعيشون 120 إلى 140 عام يأكلون الغذاء الطبيعي الصحي يعيشون في مناطق مخصصة نظيفة بيئياً، أما من هم في الأسفل، فيعيشون كما تشاء الظروف، فيحصلون على البروتين من الديدان والحشرات ويعيشون في أماكن بيئية وأخرى ملوثة. بمعنى أنه يجري تشكيل مجتمع ليس طبقياً ببساطة وإنما متمايز نوعياً».

مستقبل البشرية إلى أين؟ عرض وقراءة في طرح أندريه فورسوف 2/3

معلومات إضافية

العدد رقم:
1052
آخر تعديل على الجمعة, 21 كانون2/يناير 2022 21:45