أزمة غاز أوروبا وتقنين الكهرباء المقبل
تتصاعد أزمة الغاز الأوروبي بشكلٍ مطرد منذ نحو شهر، ووصل سعر الغاز في 17 تشرين الثاني إلى 1160 دولار عن كل ألف متر مكعب، كما صعدت العقود الآجلة لشهر كانون الأول المقبل إلى نحو 1168 دولار عن الكمية نفسها، وسط تنبؤات وتحذيرات أوروبية من أن الأزمة الجارية ستستمر لدرجة أنها تهدد بشكل جدي بانقطاع التيار الكهربائي في أوروبا، أي العمل وفق آلية «التقنين»، فما السبب والقصة خلف هذا الأمر وما مستقبل الأزمة؟
الأسباب والتفسيرات
وفقاً لتحليلات وتفسيرات مختلف الخبراء الأوروبيين، فإن أزمة الغاز الجارية قد جاءت نتيجةً لثلاثة أسباب مباشرة، الأول: هو انتعاش وازدياد الطلب بشكل كبير سواء من قبل الصناعيبن أو المدنيين، بعد قرابة عامٍ من الإغلاقات العامة، بسبب جائحة كوفيد-19. والثاني: فرض ضريبة الكربون على مختلف أنواع الصناعات التي تستخدم الوقود الأحفوري في عملها وإنتاجها، ومنه: الغاز على مستويي الاستيراد والاستخدام. والثالث: يتعلق بمشكلة التخزين، حيث لم تقم لا الحكومات ولا الموردين بتخزين الغاز خلال فترة الإغلاقات وتقلص الطلب، وإنما قلصوا من حجم استيرادهم برمته.
قد تعطي هذه الأسباب الثلاثة تفسيرات مباشرة تبدو منطقية للأزمة الجارية، إلا أنها لا تعبر سوى عن رأس جبل الجليد فيما يتعلق بالمشكلة.
من غير الممكن فصل أزمة غاز أوروبا عن مجمل أزمة المنظومة العالمية اليوم، والصراعات السياسية الدائرة دولياً من الولايات المتحدة- روسيا، والولايات المتحدة- أوروبا، وروسيا- أوروبا، وأوروبا- أوروبا كذلك، فلا توجد أزمة نقص أو ضعف إنتاج بعينه، وإنما أزمة توريد وعلاقات تجارية وسياسات محددة- من ضمنها: الضغوط والعقوبات المتبادلة التي يجري اتباعها، أدت بمجموعها لتلاقي الأسباب الثلاثة السابقة عند لحظة زمنية ما، وانفجرت الأزمة بعدها، فضلاً عن أن أزمة الغاز، بالحقيقة، لم تبدأ منذ شهر، وإنما كان لإغلاقات كوفيد-19 الفضل بالتستر عليها وتأجيل صدورها إلى موعدٍ لاحق.
الولايات المتحدة... بالطبع
انطلق دومينو صراع الغاز منذ لحظة بدء تنفيذ ألمانيا وروسيا مشروع «السيل الشمالي-2»، لتبني مختلف دول أوروبا الغربية والشرقية وحتى الموردين الإفريقيين كالمغرب والجزائر مثلاً، استراتيجيات وعلاقات توريد مختلفة عما سبق، رغم عدم صدور أية اتفاقات جديدة بعد، ويتبين ذلك من خلال السلوكيات السياسية ما بين مختلف هذه الدول، فمواقف كل من بولندا وأوكرانيا وبيلاروسيا تجاه ألمانيا وروسيا، ولاحقاً المغرب والجزائر تجاه فرنسا فيما يتعلق بالغاز، تعتبر أمثلة واضحة حول هذا الأمر.
إلا أن من يقف خلف مواقف هذه الدول الأوروبية والإفريقية بمجموعها- ويؤثر بها بالدرجة الأولى- كانت ولا تزال الولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها المتضرر الأول اقتصادياً من توسع وتعمق العلاقات الاقتصادية الروسية- الأوروبية، ويتعبها سياسياً، فكان لعقوبات واشنطن على السيل الشمالي2- والتهديدات بفرض عقوبات على شركات توريد الغاز الروسي الأخرى- الفضل بإشعال نار الخلافات والتناقضات تلك، مما أنتج حالة عدم أمان وعدم يقين لدى مختلف الأطراف على جدية تنفيذ مشروع الغاز، وآجاله، وكمياته، وما طبيعة الاتفاقات المقبلة، وجاء كل ذلك وسط أزمة رأسمالية عامة وتراجع أمريكي مطرد.
أزمة التخزين وعدم اليقين
مع حسابات رأس المال المتعلقة بالربح والخسارة، وطبيعته بالخوف، خاصة لدى الغربيين، في ظل الأزمة العامة الجارية، لم تقدم أوروبا خلال فترة الإغلاقات على تخزين الكميات التي كانت عادةً ما توردها وتستهلكها بالظروف الطبيعية، منتظرةً حدوث استقرار ما في سوق الغاز، وتحديداً بوجود تيارين مختلفين ومتصارعين حول استيراد الغاز الروسي أو الأمريكي، وأيضاً ولطبيعة رأس المال، فعندما عاد الاستهلاك لمستوياته «الطبيعية»، حيث ارتفع الطلب بدرجة كبرى بالنسبة للعرض الذي كان سائداً خلال الإغلاقات، ارتفعت قيمة العرض- أي أسعار الغاز- إلى نسبة تخطت الـ 400% بالمقارنة مع السابق، وبسبب حالة عدم الاستقرار واليقين السائدة بالعلاقات التجارية، وحتى السياسية بين الدول المختلفة، يبرز الخوف من استيراد و/أو توقيع اتفاقات جديدة قد تتضرر لاحقاً، أو حتى تتعرض لعقوبات أمريكية جديدة.
وحينما جاء دور الحكومات والدول بالتدخل بالأزمة وحلها انفجر عرضٌ من أعراض مرض الليبرالية، فالدول التي باتت أداة بيد رأس المال غير قادرة على فرض سياساتها عليه لصالح البلاد وشعوبها (على افتراض وجود نية بذلك أساساً)، ليعود الحل الأنسب هو ما جرى ويجري: إلغاء كل الإغلاقات السابقة بدرجة سريعة، وانتشار الوباء مجدداً، ثم بدء الحديث مرة أخرى عن فترة إغلاقات عامة مقبلة بسبب الانتشار الأخير، كما بدأ يحدث في ألمانيا، وبالمحصلة: محاولة وضع غطاء جديد وتقليص من شكل الأزمة، إلا أن نسب التطعيم العالية باللقاح المضاد لفيروس كورونا قد لا تتفق معها، وتضع هذه الحكومات بمواجهة استحقاقات أخرى أمام شعوبها، فأينما حاولوا لسدّ ثغرة ما، تُفتح أخرى مرتبطة معها، تشكل بمجموعها الجوانب الشكلية من أزمة المنظومة الجارية.
بانتظار السيل الشمالي-2
يتركز الصراع والاهتمام حالياً من مختلف الأطراف على بدء ضخ الغاز الروسي عبر أنابيب «السيل الشمالي-2»، ويتركز هذا الصراع بشكل أساسي في داخل ألمانيا، بين موسكو وواشنطن، وبالعمق يعني: التباين والانقسام داخل الدولة الألمانية تجاه كل من هذين البلدين، وبالإمكان رصد هذا الأمر من تناقضات التصريحات الألمانية سواء عن التسلسل الزمني بتوقعات بدء ضخ الغاز أو تأجيله، أو عن التوازي بين تصريحات السياسيين كالمستشارة الألمانية ميركل وتصريحات وزير الخارجية هايكو ماس، أو المؤسسات المعنية المناقضة لها، حيث كانت التوقعات ببدء الضخ بعد الانتهاء من بناء الأنابيب في أواخر العام الجاري، ثم تحول ذلك ليكون في بدايات العام المقبل، وصولاً لأن يكون آخر ما حُرر هو شهر آذار بعد إعلان ألمانيا عن تعليق موافقاتها لـ«السيل الشمالي-2» بسبب أمور «تنظيمية وتقنية»، بينما تستمر ناقلات الغاز الأمريكي بالوصول إلى أوروبا.
ليحذر الأوروبيون أنفسهم من أن ملايين الأشخاص في جميع أنحاء أوروبا قد لا يكونون قادرين على تحمل تكاليف تدفئة منازلهم هذا الشتاء، بسبب ارتفاع تكاليف الغاز والكهرباء، مما يعني انقطاعهما عن الشرائح الأدنى ما لم يتمكنوا من التقنين بأنفسهم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1045