السودان.. فلول النظام في الطرفين
تستمر الأزمة السياسية في السودان بالتفاعل والتطور بشكلٍ سلبي بما ينذر بتحولها إلى أزمة عسكرية كانت قد بدأت ملامحها مع محاولة الانقلاب العسكري في 21 أيلول، إلّا أنّ هذه الأزمة الراهنة، وبذات الوقت، تفتح مجالاً أمام الشعب السوداني لإنجاز التغيير المطلوب بعد فضح وتعرية القوى السياسية لنفسها في مجلس السيادة وبمكونيّها العسكري والمدني.
يتكون مجلس السيادة السوداني من مكونين: واحد عسكري، والآخر مدني، وفق اتفاقية الشراكة في عام 2019، وفي خلفيات المكونين، فإن المجلس العسكري جاء من اللجنة الأمنية التي كونها الرئيس السابق عمر البشير، والمكون المدني من تحالف قوى الحرية والتغيير، وكانت قاسيون قد فصّلت هذا الأمر في مقال سابق بعنوان «السودان، فرصة جديدة للتغيير تلوح في الأفق» من العدد 1037.
4 جهات من فلول النظام السابق؟
مما يبدو على السطح اليوم، أن الأزمة تدور بين المكونين العسكري والمدني، خاصة وأن السودان قد شهد خلال الشهر الماضي- وحتى اليوم- تظاهرات واعتصامات شعبية متباينة بمطالبها ومواقفها، مُحرضة من القوى الموجودة في مجلس السيادة، بين من يدعون لتسلم الجيش للسلطة بشكل كامل، وبين من يدعون لجعل السلطة مدنية بشكلٍ كامل، وباتهامات متبادلة من كل طرف لآخر بوصفه من «فلول النظام السابق».
ولكن بالتعمق في تفاصيل الخلافات الجارية، يتبين أن من ضمن المكون العسكري نفسه أيضاً هناك صراعات حادة تجري كانت أبرز إشاراتها محاولة الانقلاب السابقة- بقيادة مجموعة من العسكريين الضباط- على تيار عبد الفتاح البرهان، والذين اتهمهم مجلس السيادة بأنهم «فلول النظام السابق»، وبين المكون المدني نفس الأمر، حيث انشق تيار عن قوى الحرية والتغيير بقيادة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك مطالباً بتسليم السلطة كاملةً إلى العسكريين بقيادة البرهان، ليجري اتهامهم أيضاً بالأمر نفسه، لتكون بالمحصلة هناك 4 أطراف عسكرية ومدنية متصارعة مُتهمة بوصفها «فلول النظام السابق»، والكوميديا السوداء في الواقع السوداني وتطوره تفيد بأن جميع هذه الاتهامات صحيحة، والمُتهم إدانته مثبتة.
وهل من نظام جديد أساساً؟
في المقال المشار إليه سابقاً، أوضحت قاسيون منشأ مكونات مجلس السيادة السوداني الحالي، من اللجنة الأمنية العسكرية بقيادة البشير والقوى السياسية المدنية الانتهازية بعد استبعاد القوى الأكثر جذريةً، لتتمثل الخلافات الحاصلة والأزمة الجارية داخل البلاد بوصفها خلافات بين الأطراف السياسية على المحاصصة في السلطة السودانية بين مختلف القوى العسكرية والمدنية الانتهازية التي تتبع وتستفيد وتغتني من المنظومة، ومن جهة ثانية، فإن مقولة «فلول النظام السابق» تحمل مدلولاً وافتراضاً كاذباً يتمثل بوجود نظام جديد أساساً، قام مجلس السيادة بضخه بعد استبعاد الرئيس السابق عمر البشير عن رأس السلطة فقط، وهو ما لم يشهده أو يختبره السودانيون، ليتبين أن كل ما جرى هو تغيير وجوهٍ لا أكثر ولا أقل، مع تعمّقٍ للأزمة.
نشاط حماة «الديمقراطية»
بدراسة وتتبع تفاصيل المجريات السياسية ليس من الصعب إيجاد البصمة الأمريكية الموجودة خلف هذه الأطراف مجتمعة، والتي تعزز وتحرّض الأزمة، فبينما واقع الحال يقول: إن النظام السوداني لم يتغير عبر تسمية المرحلة بالانتقالية بإدارة مجلس السيادة، وأن كل ما تمثله هذه المرحلة هو صراع بين قوى تسعى لكسب الحصة الأكبر من النهب في المرحلة اللاحقة، وأن على الشعب السوداني إيصال قواه السياسية الحقيقة والجذرية التي تدفع بالتغيير، ينشط الدور الأمريكي بمحاولاته لتثبيت اتفاق الشراكة والوثيقة والدستورية واتفاقية جوبا للسلام، التي وقعت ما بين مجموعة من الأحزاب مع العسكريين، الذين ثبّتوا عملياً فكرة مجلس السيادة بتركيبته تلك وبمكوناته الانتهازية، حيث يلتقي مبعوث الرئيس الأمريكي للقرن الإفريقي جيفري فيلتمان بشكل مستمر مع ممثلين عن المكونين العسكري والمدني تحت عنوان محاولات إنهاء الأزمة الجارية، وضمان عملية الانتقال «الديمقراطي» وصولاً إلى الانتخابات، كان من آخرها يوم 23 تشرين الأول بلقاء جمعه مع رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، ورئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان والفريق محمد حمدان دقلو، فضلاً عن لقاءات أخرى يقوم بها الجانب البريطاني.
صراعات قديمة بمسميات جديدة
كانت شرارة التظاهرات والاعتصامات الأخيرة هي طلب المكون العسكري بقيادة البرهان من رئيس الوزراء عبدالله حمدوك (من المكون المدني) تشكيل حكومة جديدة بغية حل أزمة شرق البلاد، الأمر الذي رفض الأخير القيام به، ليكون بالمحصلة أن طبيعة الأزمة الجارية بين مؤيدين للحكومة العسكرية، ومؤيدين للحكومة المدنية «بقيادة قوى الحرية والتغيير» لا تختلف بجوهرها عن التظاهرات المسماة «معارضة» و«موالاة» في البلدان ذات الأنظمة الفاسدة في المنطقة، والتي تدفع عملياً لقَسم الشعب السوداني وزجه في صراعات ثنائية لا تعبّر إلا عن مصالح ورغبات القوى التي تتكلم زوراً باسمه.
إقليم شرق السودان
أما في شرق السودان، فتستمر الأزمة بالتطور نحو اتجاهات تقسيمية، حيث قال اللواء عثمان الباقر من المجلس الأعلى للبجا والعموديات المستقلة لقناة «الحرة» الأمريكية يوم 20 تشرين الأول: إن المجلس سيقوم بإعلان «دولة البجا» ومعلناً أنه قد «تجاوز أي تصعيد مدني في التعاطي مع الخرطوم والانتقال إلى التصعيد الثوري» أي التصعيد العسكري. تشكّل هذه التطورات مفصلاً خطيراً في ملف السودان الذي اختبر انقساماً سابقاً في أراضيه بعد استقلال جنوب السودان، وحساسية الظرف الحالي تكاد تكون مشابهة، مما يفرض أعلى درجات ضبط النفس والفاعلية لا من قبل قوى النظام الجديد- القديم بل من قبل الوطنيين السودانيين وقواهم السياسية الفاعلة.
التجربة تفرض خبرتها على الحركة الشعبية
إثر هذه التطورات نفسها، وفضح الأطراف المعادية لمصلحة السودان بلداً وشعباً لبعضها البعض سواء من المكون العسكري أو المدني أو بداخل كل واحدٍ منهما، فلن يطول الأمر حتى تعود انتفاضة شعبية تكمل مسار انتفاضة 2018 المطالبة بإنجاز تغييرات حقيقية في البلاد، وفي نظامها، بشكل موحد، وبمواجهة هذه الأطراف كلها، وفي هذه الأثناء، تستمر القوى السياسية الديمقراطية والجذرية بنشاطها السياسي– من بينها الشيوعي السوداني مثلاً– على فضح هذه الأطراف وضربها أكثر، فضلاً عن احتمالات نشوء قوى سياسية جديدة من الحركة الشعبية، لإنشاء مجلس وحكومة سياسية تقود البلاد بمرحلة انتقالية حقيقية ما بين نظامين نحو انتخابات فعلية، وليس لإعاقتها ولإعادة إحياء النظام نفسه بأشكال جديدة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1041