السودان... تطبيع وتجويع وقمع

السودان... تطبيع وتجويع وقمع

لم يغب السودان عن الواجهة طوال السنوات الماضية، فمنذ اندلاع الحركة الاحتجاجية في أواخر 2018، تتسارع ا لأحداث السياسية، حتى وصلنا اليوم إلى اللحظات التي تسبق العاصفة، فمع الإعلان عن حل الحكومة الانتقالية وتشكيل حكومة جديدة، تدخل البلاد مرحلة جديدة لا تبدو أنها تحمل انفراجات قريبة، بل مزيداً من التصعيد.

لم تنل الوثيقة الدستورية المعلن عنها في شهر آب من العام 2019 ثقة العديد من القوى السياسية وقوى الحراك الشعبي، لكنها كانت إعلاناً عن مرحلة لابد منها كما برهنت مجريات الأمور، فالحركة الاحتجاجية السودانية ورغم كونها استفادت من تجارب الحركة الشعبية في المنطقة، إلا أنها لم تستطع بعد أن تفرض إرادتها في شكل، وطبيعة التغيير المطلوب.

المرحلة الانتقالية

عبّرت بعض القوى السياسية في السودان ومنذ اللحظة الأولى للإعلان الدستوري «وعلى رأسهم الحزب الشيوعي السوداني»، عن وجود تشوهات واضحة في أُطر المرحلة الانتقالية التي جرى اعتمادها، ورأت هذه القوى أن المجلس العسكري السوداني- والذي برهنت الأحداث أنّه أحد المدافعين عن النظام السابق لا كأسماء، وإنما كسياسات اقتصادية واجتماعية- ينوي استغلال الفترة الانتقالية لترسيخ شكّل البلاد القائم، من حيث أن يبقى السودان بلداً تابعاً مرهوناً للقوى الخارجية، وبعيداً عن مكونات السلم الأهلي، من عدالة في توزيع الثروة، والمصالحات القائمة على أسس عميقة. يحتاج المجلس العسكري لإتمام هذه المهمة إلى حلفاء «مدنيين»، وتم ذلك عن طريق عملية طويلة من إعادة الفرز داخل «قوى إعلان الحرية والتغيير» جرى خلالها تأريض عدد من القوى السياسية وإبعادها عبر جملة من الإجراءات، مثل: تخفيض التمثيل وممارسة الضغط وغيرها، مما كرّس «الحرية والتغيير» كواجهة غير فاعلة، يجري من خلالها تبرير سلوك المجلس العسكري، وقمع الحركة الشعبية، بدل النضال في سبيل تحقيق مطالبها وبناء نظامٍ جديد.
عند النظر إلى مفرزات المرحلة الانتقالية حتى اللحظة، نرى بوضوح تفاقم الأوضاع المعيشية، واستمرار نهب ثروات البلاد، واقتصاداً يعاني من التضخم وتعطل الإنتاج الحقيقي وتحديداً الزراعي، مما ينتج عنه أزمة في تأمين متطلبات الحياة الأساسية، بالإضافة إلى انتقال السودان للعب دورٍ مسموم عبر الإعلان عن اتفاقٍ لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وتقديم كل أشكال الطاعة للقوى الغربية التي ساهمت في تفتيت ونهب السودان على مدار عقود.

الشارع يتحرك من جديد

ليس من الصعب القول بأن استمرار الأزمات التي عانى منها الشعب السوداني في ظل النظام السابق، وتفاقمها دون حل سيدفع الشعب إلى الشارع مجدداً للمطالبة بحقوقه المهدورة، وإن عملية الفرز الجارية ضمن «الجسم المدني» للنظام تدفع بجزء من القوى بشكل تدريجي إلى صفوف المعارضة مجدداً، وتبقي كل القوى السياسية المدافعة عن جوهر النظام السابق لتشكّل مع المجلس العسكري «النظام الجديد». كلُّ هذا بدأ يدفع الشارع للحركة من جديد، فبدأت الولايات السودانية تشهد تحركات احتجاجية واسعة، فشهدنا احتجاجات غير منقطعة منذ الإعلان عن بدء المرحلة الانتقالية، وعلى الرغم من أن وتيرة هذه الاحتجاجات لم تكن واحدة طوال هذه الفترة، لكنها كانت تظهر مع كل تطور جديد في المشهد السياسي، فتصاعدت مع الإعلان عن التطبيع، وتتصاعد الآن لتطالب بحل الأزمة الاقتصادية التي تجوّع الشعب.
مؤشرات خطيرة ترافق هذه الحركة مع تصاعدها، فالسلطة تقابلها بإجراءات قمع مركّبة، فأُعلن عن حظر التجول في عدد من الولايات، وجرى إعلان حالة الطوارئ، واعتمدت السلطات على القمع والإجراءات الأمنية، ويضاف إلى ذلك دفع قوىً للقيام بعمليات تخريب وسلب للممتلكات، وهناك محاولات حثيثة لربط هذه الأعمال بالحركة، وإن كنا من حيث المبدأ لا نستبعد وجود قوىً فوضوية ضمن الحركة لا ترى في الحراك الشعبي السلمي مخرجاً، وسبيلاً وحيداً للتغيير، لكن يبدو واضحاً من سلوك هذه العناصر أنها تمارس نوعاً من التخريب المتعمّد بهدف تشويه الحركة المحقة، وهناك محاولات لاتهام جهات أخرى في ارتكابها لهذه الأعمال التخريبية.

فما جرى في السوق في ولاية القضارف يُعد نموذجاً لطبيعة الأحداث، فقد اندلعت أعمال شغب واحتجاج كرد فعلٍ على زيادة تعرفة المواصلات الداخلية وتردي الأوضاع المعيشية، وشهد السوق أعمال تخريب وسلب. ويشابه هذا ما جرى في ولاية جنوب دارفور، فجرى وبشكل موازٍ لمظاهرات واحتجاجات شعبية قيام بعض العناصر بالتخريب والحرق والنهب، ووجه والي جنوب دارفور اتهاماً للحزب الشيوعي السوداني بوقوفه خلف هذه الأعمال المشينة، مما دفع الحزب لإصدار بيانٍ أعلن فيه: أن الاحتجاج والتظاهر السلمي على سوء الإدارة السياسية وتردي الأوضاع الاقتصادية حقٌ ديمقراطي مكفول، مضيفاً بأن الحزب سيتصدى «بحزم سياسياً وقانونياً لتصريحات والي ولاية جنوب دارفور للزج باسم الحزب الشيوعي واتهامه بتحريض المحتجين على العنف وعمليات السلب والنهب في محاولة يائسة لصرف الأنظار عن الفاعل الحقيقي، لشيء في نفسه ومآرب أخرى ستكشف عنها الأيام القادمة».
السلوك الحالي للنظام يؤكد: أن معركة ستشدّد، فهو من جهة يعتمد الأسلوب الأمني الذي كان سائداً زمن البشير مصحوباً بإجراءات قاسية، كفرض إغلاق الأسواق كإجراء عقابي يفاقم الأوضاع المعيشية الصعبة، ويحاول في الوقت نفسه توجيه الاتهام للقوى التي يبدو أنها ستتصدر واجهة هذه الاحتجاجات مثل: الحزب الشيوعي السوداني وغيره من القوى الوطنية الموجودة في الشارع اليوم.

الأيام المقبلة

في مقالٍ نشر في جريدة قاسيون في آب 2019 تحت عنوان «السودان المعركة لم تنتهِ بل تشتد» تنبأ بأن المعركة مستمرة ولم تنته بعد، وأن عملية فرز تجري داخل قوى المعارضة ستنتج حالات من الشقاق، وهذا ما يجري حالياً. لكن الوضع تعقّد أكثر مع دخول الكيان الصهيوني إلى المشهد مدفوعاً بالولايات المتحدة، ليواجه السودان جملة من المكائد والفخاخ التي ستُزرع في الطريق، مما سيزيد بلا شك من احتمالات التفجير والخروج عن طريق التغيير. تُلقى على عاتق القوى الوطنية السودانية مسؤولية كبرى في حماية الحركة من الانجرار إلى العنف من جهة، ودفعها لتطوير قيادتها الحقيقية بعدما راكمت من تجربة خلال السنوات الماضية. بالإضافة إلى حشد القوى الشعبية في مواجهة التطبيع، الذي يبدو أن المجلس التشريعي القادم لن يوقفه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1005
آخر تعديل على الثلاثاء, 16 شباط/فبراير 2021 14:05