الرئيس الأمريكي والأمرالتنفيذي المنتظر..
يستعد بعض الواهمين، لتغيرات كبرى في السياسة الخارجية الأمريكية، لا يمكننا تجاهل أن وسائل الإعلام، والتصريحات المعسولة للسياسيين الأمريكان تلعب دوراً أساسياً في زرع هذه الأوهام، ولكن اللافت هذه المرة، أن إثبات عكس ذلك ليس بالأمر الصعب، فالواقع يكفي لرسم صورة واضحة للسياسة الخارجية الأمريكية، وحجم التغيرات الحقيقة التي يمكن أن تطرأ عليها.
ستواجه الإدارة الحالية أياً كان توجهها مشكلة كبرى، وهي صعوبة الحركة الناتجة عن حجم الصراع الداخلي من جهة، وحجم التحديات الخارجية من جهة أخرى.
بين الرغبة والواقع
في البداية لا يمكننا القول بأن ما شهدناه من اضطرابات مرافقة للانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة كان ناتجاً عن مسرحية ما، بل العكس تماماً، فالذي يجري هو صراعٌ حقيقي بين ترامب وبايدن، لا كأشخاص بل كتيارات قائمة داخل الولايات المتحدة. ولكن وعلى الرغم من اختلاف الرؤى بين الفريقين، لا يمكننا توقع الكثير من التحولات مع استلام بايدن، ذلك لأن الرغبات شيء والواقع شيء آخر تماماً. فـ «رغبات» بايدن ستلاقي في نهاية المطاف مصيراً مشابهاً لـ «رغبات» ترامب، تلك التي لم يستطع الرئيس السابق تحقيقها؛ لما لاقتها من عقبات.
ببساطة، لن يتمكن بايدن من القفز فوق سنوات ترامب الأربع، كما لو أنها لم تكن موجودة، فكل التحليلات– حتى أكثرها تفاؤلاً– تُقر باستحالة اعتبار فترة رئاسة بايدن كامتداد لفترة رئاسة باراك أوباما، فأمام بايدن مجموعة من التحديات لن يكون قادراً على تجاهلها عند صياغة سياسته الخارجية «الجديدة» أو أيٍ من توجهاته الداخلية. والدليل على ذلك أن الرئيس الجديد وقّع 30 إجراءً وأمراً تنفيذياً في أيامه الثلاثة الأولى، ثُلثها كان لإبطال أوامر تنفيذية لترامب، مما نتج عنها رفع أول دعوى قضائية ضد إدارة الرئيس جو بايدن، فحرّكت ولاية تكساس دعوى قضائية ضد الإدارة الجديدة على خليفة أحد الأوامر التنفيذية الذي قضى بوقف عمليات ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، واعتبرت تكساس في دعواها القضائية: أن إدارة بايدن قامت بإجراء مخالف للدستور، حين تجاهلت تعهداً مكتوباً يفرض على الإدارة الأمريكية التشاور مع الولاية في مواضيع الهجرة غير الشرعية. وهو تعهد وقعته الإدارة السابقة قبل 12 يوماً من انتهاء صلاحيتها. يعتبر هذا المطب الأول إعلاناً عمّا سيواجه بايدن أثناء محاولاته إعادة توجيه السفينة. فالرئيس السابق جاء تعبيراً عن توجه حقيقي لدى النخب الأمريكية، ولن يكون بايدن قادراً على تجاهله، بل سيجد نفسه بمواجهة تيارٍ عداده 70 مليون أمريكي «أولئك الذين صوتوا لترامب في هذه الانتخابات» بالإضافة إلى أن بعضهم يمسك مفاصل حساسة في جهاز الحكم الأمريكي.
أولاً: العلاقة مع الصين وروسيا
استطاع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف توصيف الأمر بشكلٍ لا يخلو من الطرافة، ففي مؤتمره السنوي مع وسائل الإعلام، أكد لافروف: أن جوهر السياسية الخارجية الأمريكية اتجاه روسيا لن يتغير مع جو بايدن، لكن ربما تصبح تصرفاتهم «أكثر تهذيباً». فالرئيس ترامب والذي كان يرغب بإقامة علاقة جدية مع روسيا وجد نفسه أمام واقعِ مختلف، فلم يستطع تجاهل الاتهامات التي وجهّت إلى روسيا حول تدخلها بالانتخابات، واليوم أمام بايدن مجموعة من التهم الجاهزة، مثل: وقوف روسيا وراء الهجمات السيبرانية الأخيرة على الولايات المتحدة، وغيرها من الملفات التي ستفرض على أي رئيس أمريكي سلوكاً عدائياً اتجاه روسيا.
جاءت الحرب التجارية التي أعلنها ترامب ضد الصين بمثابة إعلانٍ عن رفض التقدم الاقتصادي الصيني، ومحاولة لإعاقة هذا التقدم عبر فرض العقوبات، وسن التشريعات التي تعيق التبادلات بين البلدين، بايدن في الاتجاه المقابل، لا يقبل الدور الصيني المتقدم على المستوى العالمي، وهو يشترك بذلك مع ترامب، ورغم أن إستراتيجية بايدن لا تزال غير معلنة، إلّا أن بعض الإشارات كانت كافية لفهم ما هو قادم. فجرى توجيه دعوة رسمية إلى ممثلة تايوان في الولايات المتحدة لحضور حفل تنصيب جو بايدن، وهو ما لم يحصل منذ التقارب الصيني- الأمريكي في عهد الرئيس نيكسون، وحضور ممثلة تايوان لحفل التنصيب ما هو إلّا إعلانٌ صريح عن نيّة الإدارة الحالية الاستثمار في ملف تايوان– كما جرت العادة تاريخياً– في محاولة للضغط على الصين، والحفاظ على حالةٍ من التوتر في شرق آسيا. أما مصير العقوبات الأمريكية ضد الصين فهي قيد التطبيق، ولا بوادر توحي بالتراجع عنها في الأمد القريب المنظور.
ثانياً: العلاقات مع الاتحاد الأوروبي
لم تنتج المشكلة الجوهرية في العلاقة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن سلوك ترامب الفظ، بل يوجد لهذه المشكلات جذورٌ عميقة. فأحد أهم الملفات الثقيلة التي وضعت على طاولة العلاقة بين الطرفين، هو حلف الناتو، فالولايات المتحدة لم تعد قادرة على تحمل العبء المادي لهذا التحالف، ولا ترى ضرورة لصرف هذه النفقات للعب هذا الدور العسكري الخارجي، وفي تلك المنطقة في الذات، ترامب اختزل هذه المشكلة بعبارته الشهيرة «عليكم أن تدفعوا»، قد لا يستخدم بايدن الكلمة ذاتها، لكن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على تحمل تكاليف «صداقة» بايدن مع الاتحاد الأوروبي، لذلك ستطلب الولايات المتحدة أن تلتزم دول الناتو بنسبة الإنفاق العسكري التي أعلن عنها ترامب، وسيترتب عن التخلف المؤكد للدول الأوروبية في السداد استمرار لتلك العلاقة المضطربة مع الإدارة السابقة. وفي ملف آخر، لا نية لدى ألمانيا للتراجع عن مشروع السيل الشمالي 2، ولا نية لدى واشنطن لتغيير موقفها من المشروع، بل يبدو أن الإدارة الجديدة– وإن لم تعلن ذلك رسمياً– ستقدم عرضاً لألمانيا، وهو أن ترفع واشنطن عقوباتها، ولكن بشرط واحد، وهو تعليق مشروع السيل الشمالي! أي: إننا وفي هذا الملف لن نشهد تغيرات جوهرية أيضاً.
يمكن استعراض عشرات الملفات الأخرى، لكننا لن نصل إلى نتائج مختلفة، حتى عند نقاش المسائل الداخلية في الولايات المتحدة، فرفع شعار كإعادة بناء الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة، يعني تجاهل أحد أوضح القوانين الفاعلة في النظام الرأسمالي، والذي يزيد من مركزة الثروة في أيدي القلة، ويحرم الطبقة الوسطى تدريجياً من ملكياتها ومدخراتها.
الأمر التنفيذي المنتظر
بعد كل ما سبق، يمكننا أن نصوغ معاً أمراً تنفيذياً ليصدره الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، أمراً يقضي بالاعتراف بتراجع الولايات المتحدة، وقبول مركزها المتراجع في الإنتاج العالمي، أمراً يعترف بالدولار كعملة غير مرغوبة كالسابق، وما سينتج عن ذلك من تغيرات في الأسواق العالمية، وتحديداً في سوق النفط، يجب أن يشتمل الأمر التنفيذي على إشارة واضحة لاحترام الولايات المتحدة للدول الأخرى، واحترام شراكاتها الاقتصادية والتجارية، تلك التي تجري صياغتها بالشكل الذي يحقق المنفعة لأطراف هذه الشراكات، دون أن تفرض واشنطن حزم العقوبات المعروفة. ولا يجب أن يغفل هذا الأمر التنفيذي التاريخي وجود معيارٍ واضحٍ للإرهاب، لا يحوّل منظمات كالقاعدة أو طالبان أو داعش وجبهة النصرة إلى أطرافٍ موثوقة بما يتماشى مع المصلحة الأمريكية. أمرٌ تنفيذي كهذا، وإن نجح الرئيس الأمريكي بتمريره دون اعتراض الكونغرس، خلافاً للتقاليد الأمريكية الجديدة، ربما تنجح الولايات المتحدة بالخروج من هذه الأزمة موحدة وتجنب نفسها الحرب الأهلية.
عمّن تحدث ترامب؟
مرّت في الخطاب الأخير الذي ألقاه دونالد ترامب عبارة لها وقعٌ خاص، فالرئيس الأمريكي السابق قال حرفياً: «وداعاً، نحن نحبكم، سنعود في شكلٍ ما»، فالتيار الذي مثّله ترامب لم يهزم في هذه الانتخابات كما يرى البعض، بل أعلن عن نفسه بأكثر الأشكال وضوحاً، فاقتحام مبنى الكابيتول في السادس من كانون الثاني كان حدثاً تاريخياً يعلن انتهاء صلاحية المنظومة القائمة، وكل أشكال تمثيلها السياسي. مغادرة ترامب للبيت الأبيض ليست سوى تغيير للمكان الذي سيقود فيه معركته الجارية لا بصفته الشخصية، بل بصفته ممثلاً لهذا التيار العريض.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1002