تفجيرا بغداد... لتفجير العراق..

تفجيرا بغداد... لتفجير العراق..

بدأت ملامح تفجّر الأزمة السياسية في العراق بالظهور، وبأفظع الأشكال التي راح ضحيتها أكثر من 30 شخصاً في سوقٍ شعبية خلال الأسبوع الماضي.

ورغم أن تنظيم «داعش» الإرهابي هو من تبنى ونفذ العملية، ورغم أن الولايات المتحدة الأمريكية تقع خلفها بالعمق، وتلبس التهمة والجريمة كلها، إلا أن الحدث يأتي معبراً عن حالة احتقان وخلل سياسي عميق بالملف العراقي بين مختلف القوى في الداخل والخارج، وليكون المستهدف الأول والأخير منه، والمتضرر جراءه- كما توضح بأكثر الأشكال مأساويةً بالتفجيرين- هو الشعب العراقي نفسه، الذي تتناقض مصالحه تماماً مع جميع هذه القوى بلا استثناء.

إنّ الأزمة العراقية حالياً يمكن اختصارها بأن منظومة المحاصصة العراقية «بريمر» ولدت مهزومة، وهي غير قادرة إلّا على إنتاج المزيد من الأزمات المعيشية والسياسية والأمنية، بينما لم يتمكن العراقيون، شعباً، من توحيد طاقاتهم وجهودهم لإنتاج وفرض منظومة بديلة بمشروعٍ سياسيّ واضح وجامع، بسبب قمع لا المنظومة الداخلية وحدها، إنما وجميع الأطراف الخارجية الأخرى، وأولها وأكثرها ضرراً واشنطن.

ما هدف التفجيرين؟

جرى التفجيران في الـ 19 من الشهر الجاري، بعدما سبقتهما 4 أحداث قريبة: 

في 15 من شهر كانون الثاني أعلن وزير الدفاع الأمريكي بالوكالة، كريستوفر ميلر، أن عدد القوات الأمريكية في كل من العراق وأفغانستان أصبح حالياً 2500 فرد، مضيفاً الآتي: «الولايات المتحدة اقتربت اليوم أكثر من أي وقت مضى من إنهاء حوالي عشرين عاماً من الحرب».

بعد ذلك بيومين تم استهداف رتلٍ تابعٍ للتحالف الدولي في محافظة ذي قار جنوب البلاد بعبوتين ناسفتين من المقاومة العراقية.

وفي اليوم التالي 19 كانون الثاني، تم استهداف أبراج نقل الطاقة الكهربائية في شمال محافظة بابل وتعطيلها من قبل عناصر «داعش» وفقاً للخلية الأمنية العراقية، وبنفس هذا اليوم الأخير أعلنت الحكومة العراقية عن تأجيل الانتخابات محددةً تاريخاً جديداً لها في العاشر من تشرين الأول وسط انتقادات وردود فعل شعبية.

كل واحدة من هذه الأحداث تعبر عن زاوية من زوايا الأزمة العراقية وتفاعلاتها المستمرة، فالخروج الأمريكي من العراق يعني تقليص وزن ونفوذ واشنطن به، الأمر الإيجابي بالنسبة للشعب العراقي، ولكنه كارثي للمنظومة العراقية المبنية على هذا الوجود، ولتدخلها بتناقضات أعمق ضمنه بعد كل انسحاب بين مختلف القوى السياسية، وفق الثالوث من تيارات «كردية– سنية– شيعية»، ولتُصدّر هذه التناقضات اجتماعياً إلى العراقيين لتعيد إحياء صراعات بينية وحرباً أهلية لم تنتهِ بعد... إلا أن تصريح ميلر السابق يؤكد حقيقةً مفادها: أن الخروج الأمريكي محتوم، بيد أنه يعكس مصلحة طرفٍ من أطراف الانقسام الأمريكي، فعلى المقلب الآخر، لا يزال هناك في النخبة الأمريكية من يرى الانسحاب سيئاً، ويسعى ويحاول الحفاظ على من بقي من قواته لأطول فترة ممكنة، بالوقت الذي يؤكد به العراقيون ومقاومتهم على رفضهم لهذا الوجود والحسم اتجاهه، الذي لا يزالون يعبّرون عنه باستهدافهم العسكري المستمر لقوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن، فضلاً عن تطورات موازين القوى الدولية، التي لم تعد تسمح بهذا الوجود.

وإن هذه المحاولات الأمريكية بالمماطلة تجد مناصريها وحامليها بالمنظومة العراقية، وتحديداً مع تغيّر الإدارة الأمريكية الأخير بين ترامب وبايدن، المصحوب بالتوهم بوجود اختلافات سياسية حقيقية بين الإدارتين، ليأتي قرار تأجيل الانتخابات من حزيران إلى تشرين الأول، بأحد أجزائه، مرتبطاً بتلك الأوهام والتوقعات الساذجة، وليقول وزير الخارجية العراقي يوم السبت- بعد التفجيرين- فؤاد الحسين، بأن بلاده ستطلب من الولايات المتحدة استمرار اجتماعات الحوار الإستراتيجي بين البلدين، بما يعنيه من استمرار للتواجد العسكري الأمريكي، عبر المماطلة بتنفيذ القرار البرلماني الملزم بخروجهم خلف الحوارات واللقاءات والاجتماعات وإلخ.. مستفيدين من التوترات الأمنية بذلك.

على هذه الأسس جاءت تحركات الذراع العسكرية الأمريكية بالوكالة «داعش»، أولاً: عبر استهداف الأبراج الكهربائية بالفترة التي يعاني منها العراق من نقص شديد بهذه الطاقة: بغية توليد المزيد من الاحتقان الشعبي تمهيداً لتفجيره، وإعطاء الذريعة للحكومة لمزيدٍ من التقشف بها. وثانياً: العمليتان الإرهابيتان وسط العاصمة بغداد: لترهيب المجتمع العراقي وشحنه وفق «الثالوث» السابق، وإعطاء المبررات لكلّ من المنظومة العراقية والقوات الأمريكية بالمماطلة لاستمرار وجودهم العسكري.

ملامح أولى لتفجّر الأزمة فقط

بالتالي، فإن ما جرى في العراق هو خطوة أولى من خطى تعبيرات الأزمة مع أول أيام الإدارة الأمريكية الجديدة، فرغم التأكيد على ألّا فرق بأيّ من الإدارات الأمريكية: بالنتيجة، وبالمحصلة، بما سيكون في نهاية المطاف لأسباب موضوعية.. إلّا أن الطريق نحو هذه النهاية يختلف بأشكاله وسرعته على اختلاف أشكال التعاطي الذاتي معه، فإدارة ترامب المعبّرة عن مصلحة «الانكفاء» والمعترفة بضرورتها، قد كانت على «قسوتها» الشكلية تتراجع وتنسحب مع كل تطور سياسي إقليمي أو دولي يفرض ذلك، أما التيار الآخر، وخلف «براغماتيته» السياسية شكلاً، يمضي بتناقضٍ مباشر مع التطورات الموضوعية ومتحدياً لها، منتجاً بذلك حوادث وأزمات أكبر وأكثر حدّة لن تكون هذه أولها... إلّا أن هذه الحال نفسها هي من ستفرض تطورات أسرع، وتدفع بالخروج الأمريكي التام من العراق والمنطقة بوقتٍ أقل.

وبهذا المعنى، فإن مسألة ضرورة إيجاد بديل سياسي ومشروع لتنفيذه وفرضه من قبل العراقيين قد باتت ضرورةً ملحّة واستحقاقاً كبيراً يعونه، ولن يؤدي التأخير به إلّا إلى إطالة عمر الأزمة ومفرزاتها من كوارث تصيب العراقيين، بديلٌ لا يمكن أن يأتي ولا أن يكون من منظومة المحاصصة «بريمر» نفسها، وإنما على العكس منها: الوطني الجامع.

حيث إن الخروج الأمريكي التام، وإن جرى، وإن غابت واشنطن تماماً عن العالم، فلا شيء سيؤدي إلى التغيير وحل الأزمات إلّا بوجود هكذا مشروع سياسي وطني منظم يحمله العراقيون ويدفعون به، وهو ما يجري العمل على بنائه الآن.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1002
آخر تعديل على الثلاثاء, 26 كانون2/يناير 2021 14:37