فرنسا... «تتمسك بالليبرالية» وتخلع ثياب التنكر!

فرنسا... «تتمسك بالليبرالية» وتخلع ثياب التنكر!

نسمع في فرنسا سواء عبر وسائل الإعلام، أو على ألسنة السياسيين، مجموعة من المفردات التي لم نألفها من قبل، وخصوصاً في «واحة الديموقراطية»، فالحديث الدائر حول «الدفاع عن الجمهورية»، و«الحركات الانفصالية» و«التمسك بالقيم الليبرالية والديموقراطية» إن كان يدل على شيء فهو يدل على اقتراب الصدام النهائي الذي ينتظر «الجمهورية الفرنسية» لا محالة.

تشهد فرنسا احتجاجات منذ سنوات دون توقف، تمر هذه الحركة بفترات انحسارٍ مؤقت لتعود مجدداً بأشكال جديدة، ودماءٍ جديدة؛ فحركة «السترات الصفراء» التي انطلقت في 2018 لا تزال قائمة حتى اللحظة، وتظهر إلى جانبها حركات جديدة كنتيجة لكل ما يجري. ففي يوم السبت الماضي 5 كانون الأول، وصلت أعداد المظاهرات في البلاد إلى ما يقارب 100، فما الذي يعنيه خروج 100 مظاهرة في يومٍ واحد؟ أين هي نقطة البداية لهذه الاحتجاجات، وأين يمكن أن تنتهي؟ وكيف يمكن قراءة مشروع تعديل قانون «الأمن الشامل» الذي يرفضه الشارع، وجزء من القوى اليسارية في فرنسا؟

نقطة البداية!

ترتاح وسائل الإعلام لوضع «الحدث»- أي حدثٍ كان– ضمن قالب زمني مضبوط، فهناك «بداية الحدث» وصولاً إلى «نهايته»، وهذا بالطبع لا يعتبر «سياسة تحريرية»، بل هو توجهٌ سياسي مجرّبٌ و«نافع»، فالنخب المالكة لا ترى جدوى من ربط الأحداث التي تجري اليوم مع أسبابها القديمة، تلك التي تعود بالنسبة لبلدٍ مثل فرنسا لحقبة الاستعمار الأسود، فـ «الجمهورية الديموقراطية» هذه لم تظهر من قبعة ساحر!، بل نشأت ضمن ظروفٍ تاريخية محددة، وإرثٍ استعماري توارثته نخبة حاكمة لا تربطها قرابة دمٍ بالضرورة، بل قرابة المصالح الطبقية.
يأخذ الصراع اليوم جوانب عدة تشترك في جوهرها، حتى وإن لم تدرك أطرفها أنها في خندقٍ واحد، فمن جهة هناك المهاجرون والفرنسيون الذين تعود أصولهم إلى مستعمرات فرنسا البعيدة، الذين يرون أنهم مواطنون من درجة ثانية. ومن جهة أخرى هناك العاملون بالأجر، والذين بدأوا يخسرون امتيازاتهم بشكلٍ تدريجي، ومنذ سنوات، مما يحولهم تدريجياً إلى مواطنين من الدرجة الثانية أيضاً! فوجود هذه المشكلات وتفاقمها لعقود مضت يجعلها خزاناً للمشكلات التي تظهر في كل مرةٍ بشكل جديد، إما على شكل مظاهرات لتحسين سبل العيش، وإما تضامناً مع المهاجرين، وإما تضامناً مع ضحايا عنف الشرطة، وإما دفاعاً عمّا تبقى من الحريات التي ينص عليها الدستور الفرنسي.

قصصٌ ذات مغزى

انتشر في 21 من شهر تشرين الثاني الماضي، فيديو يظهر قيام 3 من عناصر الشرطة في أحد شوارع باريس بضرب مواطن فرنسي من ذوي البشرة السوداء، والذي حاول الابتعاد عن الدورية بسبب عدم ارتدائه قناعاً طبياً للوقاية، فتبعه رجال الشرطة إلى الاستديو الموسيقي الذي يعمل فيه، وقاموا بضربه بشكلٍ وحشي، ورموا قنبلة غاز مسيل للدموع داخل المبنى الذي يحتوي على 10 أشخاص. وكان لهذا الحادث تداعيات كثيرة، ودفع بالآلاف إلى الشوارع، وشكّل أزمة في أوساط الحكم ووزارة الداخلية.
وفي 25 تشرين الثاني الماضي، فككت الشرطة الفرنسية مخيماً للاجئين غير الشرعيين في ساحة الجمهورية في العاصمة الفرنسية باريس، واستخدمت العنف والغاز المسيل للدموع، ليصبح هذا الحدث حلقة جديدة ضمن مسلسل استمر لشهور متتالية، إذ تحاول الشرطة تفكيك مخيمات يقوم اللاجئون بإنشائها في الضواحي، وعلى ضفاف الأنهار، لكن دون أن تجد حلاً للمشكلة، فلا يجري تأمين مأوى أو أية رعاية طبية، ليصبح الآلاف من اللاجئين الذين قدم معظمهم من أفغانستان والسودان والقرن الإفريقي في الشارع، يبحثون عن حل. والإجراء الوحيد الذي تعتمده الشرطة هو تفكيك هذه المخيمات بالقوة، حيث تقوم الشرطة بحصار المخيم مع ساعات الفجر، وتقوم بنقل المقيمين فيه إلى أماكن غير معلنة، وتؤكد الجمعيات الحقوقية وغيرها: أن ما يجري لا يتعدى كونه تفكيكاً لأماكن التجمع، ليجري إعادة معظم المهاجرين إلى الشوارع، ليقوموا بالبحث عن مكان آخر لنصب خيامهم فيه.
تعد هذه القصص إلى جانب عشرات الحوادث في الآونة الأخيرة مقدمة ضرورية لفهم الملابسات التي ترافق مشروع تعديل قانون الأمن الشامل، والذي يعتبر اليوم أحد الأسباب الأساسية للمظاهرات في فرنسا.

ما مشكلة القانون؟

يمكن تكثيف مضمون التعديل الجديد بجملة واحدة: توسيع صلاحيات رجال الشرطة في فرنسا وتقليص قدرة الشارع والقوى السياسية ووسائل الإعلام على محاسبة سلوك رجال الأمن. فمشروع القانون الجديد يحد في مجموعة من مواده «المواد 21– 22– 24» الكثير من الحريات، فهو يمنع تصوير رجال الشرطة أثناء قمعهم للتظاهرات، ويغرم من يقوم بذلك سواء كان فرداً في وسيلة إعلامية أو أحد المتظاهرين، بغرامة تصل إلى 45 ألف يورو، بالإضافة إلى السجن لمدة عام، ويجيز القانون استخدام كاميرات مراقبة على طائرات مسيرة تستطيع التعرف على الوجوه، مما يعد انتهاكاً للخصوصية وتقييداً للحرية العامة. الملفت في الأمر: أن القانون تجاوز المرحلة الأولى في البرلمان الفرنسي بعد أن حصل على تأييد كتلة الأغلبية، ليتجه لاحقاً إلى مجلس الشيوخ، لكن الاحتجاجات والمواقف الرافضة تعيق إقراره حتى اللحظة، ويجري الحديث حالياً عن مراجعة له، وإعادة صياغة للمواد الإشكالية الواردة فيه، لكن هذه التطمينات لم تكفِ لتهدئة الشارع حتى اللحظة.
وبالمقابل، هناك أصوات داعمة لهذا التوجه، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي قام حزبه في البرلمان بتقديم المشروع، اعتبر الانتقادات حول القانون لا تجعل فرنسا «دولة ديكتاتورية»، مضيفاً أنه لا يمكن مقارنة الوضع في بلاده مع «بلدانٍ مثل: المجر وتركيا»، ومن جانبه دعا وزير الداخلية جيرالد دارمانين إلى دعم الشرطة، واعتبر أن هناك «مخربين يخربون الجمهورية» وقال في تصريحاته: إن العشرات من رجال الشرطة أصيبوا في المواجهات الأخيرة.
أكد الرئيس الفرنسي نفيه للاتهامات التي تقول إنه يبتعد بسياسته عن القيم الليبرالية، وهذا مفهوم بالطبع، فالنخبة الحاكمة في فرنسا تتمسك بجملة شعارات شكلية، لكن ما يجري فعلياً هو أن الرداء الذي ترتديه تلك الشعارات قد ضاق عليها، ولم يعد من الممكن الحفاظ على «الليبرالية/ الرأسمالية» بالوسائل السابقة.

الأسئلة الكبرى

لا تنتهي التفاصيل حول ما يجري، بل تتراكم كل يوم وفي عدة ملفات وفي وقتٍ واحد، ما يهمنا الآن هو طرح القانون والظرف الذي تم به، حتى وإن تمت إعاقة القانون مؤقتاً. هناك سبب موضوعي لدفع قانونٍ كهذا، فالملّاكون لم يعودوا قادرين على الحكم بالشكل السابق، وهم يدركون هذا ويواجهون جمهوراً عريضاً من الشعب لم يعد راضياً بشكل عيشه، وهنا مَقتل «الجمهورية» الحقيقي، وهذا ما يهددها، لا «المخربون» الذين يخشاهم السيد دارمانين! فالاحتجاجات لا تتوقف وتزداد أسبابها كل يوم، لتضم في صفوفها أعداداً جديدة، ولم يعد من الممكن ضبط الأمور ضمن «حدود اللباقة الفرنسية» فرجال الشرطة سيكونون أمام خيارٍ وحيد، وهو قمعٌ وحشيٌ مستميت دفاعاً عن منظومة كاملة، وهذا ما تدركه النخب الفرنسية، لذلك تبدو محاولة تمرير هذا القانون مفهومة، فهناك من يرغب بأن يجعل القمع الوحشي الجاري محمياً بالقانون، هناك من يريد «قمعاً قانونياً»، وحتى إن استطاع الشارع رفض هذا القانون وإعاقته فلا مشكلة بهذه الحالة من أن يصبح القمع خارجاً عن القانون! فدول كثيرة تداس دساتيرها تحت أقدام رجال الأمن، ولن تكون فرنسا آخرها!

في العام 1992 كتبت الروائية الإنكليزية فيليس دوروثي جيمس رواية شهيرة بعنوان «أبناء الإنسان» وجرى اقتباسها في فيلم سينمائي بالعنوان ذاته للمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون عام 2006، ولا نبالغ إن قلنا: إن مشاهد تفكيك مخيمات المهاجرين في العاصمة الفرنسية تبدو كما لو أنها مشاهد مأخوذة من الفيلم الذي يرسم صورة متخيلة لأوروبا التي تمارس أشد أنواع القمع والتمييز العنصري ضد مهاجرين من بقاع الأرض، أتوا هرباً من الحرب والدمار. نراهم في الفيلم في أقفاص تشبه تلك التي استخدمها النازيون في معسكرات اعتقالهم. أزمة المهاجرين تتفاقم ولن تستطيع فرنسا التعامل معها، بل تصبح حدود الفصل بين المهاجرين والمواطنين الفرنسيين رفيعة تكاد لا ترى، فالجماهير المقموعة لم يعد من الممكن احتواؤها، وإن كانت ظروف العيش في فرنسا تبدو أفضل من غيرها، فهي لا تبدو كذلك بالنسبة للفرنسيين فأحد التقارير يشير إلى أن نسبة الفقر في فرنسا وصلت عام 2018 إلى 8,3% نصفهم من الشباب الذين لا تتجاوز أعمارهم 30 عاماً، ويشير هذا التقرير في متنه: أن الأرقام تشمل الوضع قبل تداعيات الاقتصاد الأخيرة، أما ومع تفاقم الأزمة الرأسمالية وتداعيات فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي، ستزداد وتيرة هذا التسارع بارتفاع معدلات الفقر والبطالة. مما يجعل فرنسا أمام مواجهة مفتوحة، لن يكون القمع أداتها الوحيدة، بل وأيضاً شق صفوف الطرف المقابل، فالتمييز الذي يشعر به أكثر من 4,5 ملايين مسلم في فرنسا، أمرٌ مقصود، فدفع المتطرفين للاصطدام مع الفرق الأخرى على أساس الدين أو القومية، يمكن أن يشكّل حلاً مؤقتاً بالنسبة للنخب، بأن يضرب المنهوبون بعضهم البعض، بغض النظر عن النتائج الكارثية التي يمكن أن تلحق بأوروبا، إن حدث هذا السيناريو فعلاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
995