وباء العصر... بين الإنسانية والربح.. هل من خلاص؟!
بينما تتجّه أنظار العالم إلى الجهة التي ستعلن أخيراً عن إنتاج لقاح آمن وفعّال لفيروس كورونا المستجد COVID-19، تعتزم روسيا تسجيل أول لقاح عالمي في الثاني عشر من الشهر الحالي، والذي طوّره مركز «غاماليا» التابع لوزارة الصحة الروسية، بعد عدة تجارب تمّت في مختبرات تابعة لوزارة الدفاع، وسيتم تطعيم الجرعات الأولى منه للعاملين في المجال الصحي والمسنين، كونهم أكثر عرضة للإصابة بالفيروس.
نظراً للعدد الكبير من الدول والشركات التي تتسابق لإنتاج اللقاح أولاً، يعدّ هذا الإنجاز الروسي سبقاً هامّاً، ليس لكونه سيساهم في إنقاذ البشرية من الوباء وجميع تبعاته الصحية والاجتماعية والاقتصادية فحسب، بل لأنه سيحقّق نصراً سياسياً لها، سيضاف إلى مجمل الانتصارات التي تحققها روسيا كجزء من القطب الصاعد دولياً.
كثافة دولية سعياً للتصدّر
يوجد إلى الآن ما لا يقل عن 70 لقاحاً من لقاح COVID-19 قيد التطوير، تتوزع شركات الأدوية والمختبرات المنتجة لهذا اللقاح بين أمريكا وأوروبا والصين وروسيا وأستراليا، معظم هذه الشركات تابعة للقطّاع الخاص أو المشترك، وبعضها يحصل على تمويل مشترك (شركة «موديرنا» الأمريكية للتقانة الحيوية، مختبر «إنوفيو» للتقانة الحيوية، وجامعة كوينزلاند في أستراليا، ومختبرا «BioNTech» و «CureVAc» في ألمانيا. جميعها خاضعة لسيطرة وتمويل مؤسسة غيتس.
وفي ظلّ هذه الكثافة العالية تبرز مجموعة من المعايير المحددة لنجاعة اللقاح، مثل: الأمان والفعالية والقدرة على إنتاج ما يكفي منه عالمياً. إضافةً إلى ذلك، وبتوسيع منظور الرؤية قليلاً فإنّ معايير أخرى متعلقة بطبيعة الظرف الدولي اليوم وتبعاته السياسية والاقتصادية والعلمية تدخل في الحسبان عند الحديث عن اللقاحات.
الأمان والفعالية..
عند الحديث عن هذه النقطة، تنبغي الإشارة إلى أنّ تأثيرات جانبية ونسبة من الأضرار قد تكون موجودة في أي لقاح، وهو أمر معروف على اعتبار أن اللقاحات هي أدوية مناعية في نهاية المطاف، ولكن حجم هذه الأضرار ونسبتها هو ما يختلف بين لقاح وآخر. يمكن على سبيل المثال: التذكير بوجود جوانب مشبوهة في بعض اللقاحات التي تمّ اعتمادها من قبل منظمات دولية (اكتشاف بعض الباحثين من جامعات أمريكية وكندية بالتعاون مع طبيب كيني وجود هرمون Beta-hCG – هرمون يؤدي للعقم- في عينات من لقاح الكزاز ضمن عينات مهيأة لتلقيح النساء الكينيّات، حيث تضع هذه الحادثة مجموعة من إشارات الاستفهام حول مساعي غيتس «طيبة النية» بتوزيع لقاح كورونا المستجد بمبلغ 3 دولارات فقط على الدول الفقيرة، فما الذي يضمن للبشر وخاصةً في هذه البلدان ألّا تتكرر حادثة لقاح الكزاز مع لقاح كورونا المستجد؟
فالموثوقية التاريخية بأمان اللقاحات المصنّعة من قبل هذه الشركات تتقلّص شيئاً فشيئاً مع خضوعها لمثل هذه التحقيقات. بالمقابل يبدو أن الدول التي يشكّل فيها الوباء تهديداً كبيراً لأمنها الوطني، تسعى إلى أن تكون عملية الإنتاج خاضعة للإشراف الحكومي المباشر، والذي يعني معايير أشد صرامة من تلك التي للشركات الخاصة، والتي تهدف إلى الربح الأعلى حتى ولو بأمان أقل. وتعدّ هذه النقطة إحدى إيجابيات بعض اللقاحات التي يجري تطويرها، ومن بينها: اللقاح الروسي الذي تشرف عليه المؤسسة العسكرية تحديداً.
تسييس اللقاح
لا يمكن إنكار أنّ المصالح السياسية للدول تقف وراء أية عملية إنتاج محتملة للقاح، ولكن تختلف هذه المصالح بحسب طبيعة وبنية كل دولة.. فمثلاً: في الوقت الذي يفترض فيه أن يحقق اللقاح منفعة عالمية للجميع، وأن تستطيع كل الدول الحصول عليه، يرى دونالد ترامب أن أمريكا أحقّ به من باقي العالم، حيث أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في الشهر الخامس بأنها ستمّول المختبر البريطاني «أسترازينيكا» بما قيمته 1,2 مليار دولار لتصنيع لقاح لصالح جامعة أوكسفورد، ولكن بشرط أن تُنقل التكنولوجيا إلى أمريكا، وتوفر لها 300 مليون جرعة. على العكس من ذلك تؤكد دول أخرى بمن فيهم روسيا على ضرورة إيصال اللقاح إلى الجميع، حيث قال رئيس الصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة كيريل دميترييف: «حسب تقديرنا سيتم في عام 2021 إنتاج أكثر من 3 مليارات جرعة من اللقاحات ضد كورونا... ما سيسمح للعالم بمحاربة الفيروس بشكل فعّال».
وبما أن الصراع السياسي اليوم في أوجه بين المركز الغريي والدول الصاعدة، تجري مجموعة من الألعاب الإعلامية التي تهدف الى ذرّ الرماد في العيون، في محاولة لتقليص حجم المساهمة الروسية في إنتاج اللقاح أو تشويهه قدر المستطاع، وما الحديث عن قراصنة روس حاولوا سرقة معلومات من مختبر بريطاني إلّا دليلٌ على ذلك. يجيب أحد العلماء الروس على هذا الادعاء متهكماً: «لا نزال نسمع كلاماً عن القراصنة الروس في السنوات الأخيرة، فما الذي لم يفعله هؤلاء القراصنة، يبدو أنهم يسيطرون على كل العالم، وفي أيديهم المفاتيح لجميع صناديق الاقتراع والمصارف وقواعد البيانات، لا يسعنا سوى أن نضحك على كل هذا الهراء».
إنسانية # ربح / تعاون # تنافس
كشفت أزمة كورونا- وأزمة الحصول على لقاح له فيما بعد- مجموعة من الحقائق التي أكدت أن المنظومة العالمية اليوم، والقائمة على فكرة تحقيق الربح الأعلى هي العدوّ الأول والعائق الأكبر أمام تقدم الإنسان، فالصراعات الدولية التي جذرها الاعتداءات الإمبريالية والغربية أساساً دفعت العالم نحو حالة غير إنسانية، تتمثل في غياب تنسيق عالمي واسع وشامل في مجالات كثيرة، ومنها: المجال الطبي والدوائي، والذي يصبح غياباً مؤلماً وشديد التأثير السلبي في وقت الأزمات الكارثية، التي تتطلب تكريس كل ما توصلت إليه البشرية من تقدم علمي في سبيل إنقاذها، بعيداً عن أمراض الربح والتنافس.
وضمن هذا الصراع أيضاً، نجد بعض الدول الصاعدة اليوم والتي تسعى إلى كسر حالة الهيمنة الغربية بكل أشكالها: التبادل اللامتكافئ، احتكار العلم والتكنولوجيا، سباق التسلح العالمي وغيرها... نجد هذه الدول تسعى إلى استبدال صيغة التنافس بالتعاون، حيث نرى محاولات بعض العلماء الصينيين والكوبيين تطوير لقاح جديد أيضاً، معلنيين، أنّه سيكون بأسعار منخفضة. ورغم ذلك فقد تكون هذه الدول مضطرة في ضوء هذه المنظومة القائمة إلى أن تمارس لعبة الاحتكار والربح ولو جزئياً. حيث يبدو من السذاجة الحديث عن لقاح عالمي بدون تحقيق أرباح، ولكن ليس كما أن يكون الهدف من الإنتاج هو تحقيق الأرباح وحسب.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 978