المعارضة تكسب إسطنبول مجدداً: أخطاء الماضي تُلاحق «العدالة والتنمية»!
تأكّد فوز مرشح المعارضة التركية أكرم إمام أوغلو، عن حزب «الشعب الجمهوري»، في رئاسة بلدية اسطنبول بعد إعادة الانتخابات في هذه الأخيرة في 23 حزيران الفائت، وفقاً لقرار الهيئة العليا للانتخابات، والذي جاء إثر اعتراضات وطعون حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا على نتائج الانتخابات في 31 آذار الفائت.
المفاجأة كانت صادمة للحزب الحاكم، ولا سيما مع توسع الفارق بين المرشَحين لصالح أوغلو؛ ففيما كان الفارق 13 ألف صوت تقريباً في انتخابات آذار، بلغت حوالي 800 ألف صوت في الانتخابات المعادة. وبدلاً من أن يستعيد بن علي يلدرم مرشّح حزب «العدالة والتنمية»، ولاية اسطنبول، التي تشكل مفتاح حكم تركيا وفقاً للمتعارف عليه لدى الساسة الأتراك، خسر المعركة مع الخصم بالعلامة الفارقة والواضحة، وأكسب حزبه منافساً قوياً في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
تغيرات جديدة
تعكس النسخة المعادة من الانتخابات في بعض جوانبها بداية تغيرات كبيرة في الخريطة السياسية التركية، وتحولات مقابلة في القواعد الجماهيرية للأحزاب السياسية، أو في الكتل الانتخابية لها، والتي بدأت بالظهور كنتيجة لتراكم العديد من المسائل خلال السنوات العشر الماضية على وجه التقريب، وتسارعها في العامين الأخيرين خصوصاً.
«صفر مشاكل»
حقق حزب «العدالة والتنمية» شعبيته التي أوصلته للحكم عِبر عدة محطات من خلال بوابة أساسية هي النمو الاقتصادي، واستطاع حتى عام 2010 تقريباً بناء نموذج النمو المذكور وفقاً لسياسة «صفر مشاكل» والتي تعني: تخفيض مستوى التوتر مع الجوار إلى أقل حدوده لتأمين بيئة استثمارية ملائمة، وفي هذا السياق يجب الانتباه إلى أن السياسة الخارجية لتركيا الحديثة منذ تأسيسها كجمهورية عام 1923 كانت قائمة على أساس «عشرات المشاكل» مع الجوار ضمن التوازن العالمي حينها؛ وقد كان عليها أن تمارس دوراً استفزازياً دائماً في مواجهة الكتلة الشرقية، روسيا وحلف وارسو، لذلك تاريخياً كانت تركيا تمتلك في جُعبتها الكثير من الأوراق لتفعيل بؤر توتر دينية وعرقية في شرقي أوروبا ووسط آسيا وشرق المتوسط.
عودة المشاكل
بالعودة إلى حقبة «العدالة والتنمية» فإن تصفير المشاكل مع الجوار كان أحد الأسباب المؤثرة في تحقيق النمو الاقتصادي وكسب الشعبية في أوساط الجماهير حتى عام 2011 وتحديداً مع الدخول على خط الحرب السورية إلى جانب التحالف الغربي. هذا الأخير زجّ بالأطراف الإقليمية المنضوية معه، تركيا والدول الخليجية على وجه الخصوص، في حقل الألغام ذاته الذي نصبه لسورية، وعرّض تلك الأطراف إلى ذات التحديات التي فرضها على سورية، لنرى على وجه التحديد المحطات التي واجهتها تركيا في هذا الصدد: تحول جنوب تركيا إلى منطقة نشاط استخباري وعسكري وحربي كثيف في سياق تركز العمليات العسكرية شمالي سورية. وتفجير التناقض فيما يتصل بالمسألة الكردية بعد تجربة تهدئة مهمّة في سنوات سابقة. استقبال العدد الأكبر من اللاجئين السوريين الذي يقارب رقم 4 ملايين. المجازفة بانهيار العلاقة مع روسيا بعد إسقاط إحدى طائراتها على الحدود السورية. التورط بمشروع المنطقة الآمنة شمالي سورية اقتصاديا وعسكرياً..
«صحوة» مفاجئة
أدى الانقلاب الفاشل في تموز 2016، والذي يُرجّح قيامه بتدبير أو مباركة أطراف غربية، إلى إدراك القيادة التركية لحجم الورطة التي تعيشها مع حلفائها المفترضين. وأسفر ذلك لاحقاً عن بداية ظهور ملامح استدارة تركية نحو الجوار بدلاً من استعدائه تحت جناح الغرب، تجلّى ذلك بتطوير العلاقات السياسة والاقتصادية مع روسيا، والدخول إلى فضاء أستانا كمكوّن أساس على خط حلحلة الأزمة السورية، وإبقاء اللقاء مع الجوار الروسي والإيراني في حالة انعقاد على المدى الإستراتيجي. وصولاً إلى صفقة شراء منظومة S400 الروسية، وتحوّل الخلاف السياسي مع الولايات المتحدة إلى حرب تجارية معلنة، وفقاً للرئيس الأميركي ترامب، أدت إلى خسارة الليرة التركية بمعدلات غير مسبوقة.
الأسباب
بالرغم من ذلك، لمّ تمر الأخطاء السابقة للقيادة التركية دون دفع أثمان. ومن هنا يمكن فهم التحولات المرافقة للتجربة الانتخابية الأخيرة التي تجاوزت حدودها المحلية.
الانتخابات الأخيرة، في نسختها المكررة في 23 حزيران الفائت، بحسب المتابعين، كانت ثمرة للعديد من الأسباب.
أولاً: تراجع شعبية «العدالة والتنمية» والذي يعود بالدرجة الأولى إلى الآثار السلبية للضغوط الأميركية على الاقتصاد التركي، بمشاركة السعودية والإمارات، والذي أسفر عن بلوغ التضخم 20% والبطالة حوالي 12% وفقدان الليرة التركية 30% من قيمتها عام 2018.
ثانياً: أدى اعتياد «العدالة والتنمية» الفوز بالانتخابات البرلمانية والمحلية، والرئاسية مؤخراً، على مدى 17 عاماً إلى ترهّل أدواته على الأرض، وتحول كادراته إلى مجرد موظفين حزبيين، في مقابل نجاح المعارضة في تقديم مرشحين مقنعين للشارع والجمهور.
ثالثاً: خسارة الحزب الحاكم التركي لإسطنبول تعود بأحد جوانبها إلى الانتهاكات على مستوى الحريات السياسية، وزجّ معارضين، كصلاح الدين ديمرتاش زعيم «حزب الشعوب الديمقراطي»، في السجون، الأمر الذي أدى إلى انحياز قواعدهم الجماهيرية مع أي مرشح ضد «العدالة والتنمية»، إضافة إلى لغة التخوين والتهديد ضد بعض التيارات المعارضة.
رابعاً: المبالغة بالحملة التي أطلقها الرئيس التركي ضد تنظيم فتح الله غولن، المتهم الأول في تدبير المحاولة الانتقالية في تموز 2016، والتي شملت فصل مئات الألوف من الموظفين والقضاة والعسكر من وظائفهم، ويصف البعض تلك الحملة بأنها ذريعة لتصفية الخصوم السياسيين.
خامساً: تحويل النظام إلى رئاسي أدى إلى تعاظم دور الرئيس الحالي إردوغان بصفته الشخصية، مقابل غياب الأسماء المهمة من محيطه، وتحوّل الحاشية المحيطة بالرئيس إلى نخبة صامتة مكونة من أصحاب نفوذ مالي وتكنوقراط، هذا الأمر ساهم بخسارة الأسماء غير معروفة من «العدالة والتنمية» التي تم ترشيحها لرئاسة بلديات كبرى المدن التركية كأنقرة وأزمير.
تداعيات متواصلة
ما إن صدرت نتائج الانتخابات، واعترف بن علي يلدرم بهزيمته أمام منافسه أكرم إمام أوغلو، حتى سارعت الصحافة وبعض الشخصيات المعارضة إلى تعميق جراح الحزب الحاكم، فقد بدأ الحديث منذ الآن عن تحضير رئيس بلدية إسطنبول الجديد إمام أوغلو لمنافسة إردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2023. إضافة إلى طرح إمكانية دعوة المعارضة لانتخابات رئاسية مبكرة، أو احتمال دعوتها لإعادة النظام البرلماني.
ومن اللافت وسط كل ذلك، بدء الحديث عن تجمع شخصيات قيادية سابقة من «العدالة والتنمية» لتأسيس حزب سياسي جديد يضم القادة السابقين المبعدين كالرئيس السابق عبدالله غول، ورئيس الوزراء السابق أحمد داوود أغلو، ورئيس البرلمان السابق بولنت أرينج، وعلي باباجان وزير الاقتصاد السابق، المعروف بصلاته مع الأوساط المالية العالمية، والذي ينشط بصورة مكثفة داخل وخارج تركيا لتحقيق ذلك الهدف. كذلك تتداول بعض التقديرات احتمالية انقسام الكتلة البرلمانية للحزب الحاكم وذهاب قسم منها مع هؤلاء.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 920