«الذئاب المنفردة» في نيوزيلندا!
ما زالت أصداء حادثة نيوزيلندا تصدح عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، ويجتهد الكثير من المحلّلين سياسيين كانوا أم أشخاصاً عاديين في إرجاع سبب الحادثة إلى ما يسمّونه بـ«الصراع بين الأديان»، والكراهية المتولّدة بين البشر بناءً على انتماءاتهم العرقية أو القومية أو الدينية.
ولكن هل هذا هو السبب الحقيقي في حادثة نيوزيلندا؟ وإن كانت الكراهية سبباً فما منشؤها؟ والسؤال الأهم من كل هذا: من المستفيد مما يحدث؟
تفاصيل حادث نيوزيلندا الإرهابي
بتاريخ 15 من الشهر الحالي قام رجل أسترالي الجنسية بالاعتداء على مسجدين في مدينة «كرايستشيرش» في نيوزيلندا، قام خلاله بإطلاق النار على عدد من المصلّين الذين وصل عدد ضحاياهم إلى 50 شخصاً وقرابة 50 جريحاً. المثير للاستغراب هو تصوير المعتدي للحادثة وبثّها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي أثار استهجان الرأي العام العالمي وساهم في إثارة هذه الضجة الإعلامية الكبيرة حول الحادثة.
الهدف من التصوير
بمقارنة بسيطة بين هذا العمل الإرهابي وأمثاله من الأعمال التي تحدث في منطقتنا يمكننا إيجاد الكثير من القواسم المشتركة، ولكن يبقى القاسم المشترك الأكبر من ناحية الشكل على الأقل هو عملية تصوير هذه الأعمال وبثّها بشكل متواتر وكبير عبر وسائل الإعلام. قد لا تثير هذه المسألة الشكوك لدى الكثيرين، فنحن في عصر التكنولوجيا، ومن الطبيعي أن يتم توثيق الأعمال الكبرى ونشرها ليراها الجميع ويأخذوا حذرهم. ولكن هذا بالضبط ما تهدف إليه عملية تصوير الحادثة، فلكي يصبح الإرهاب إرهاباً لا بدّ من نشره وتكراره واستهلاكه حتى الرمق الأخير، وبأبشع الصور الممكنة، فالخوف الذي تولّده هذه المشاهد عند الناس كفيلة في إثارة الحقد والكراهية تجاه جنسية منفذ العملية أو ديانته أو قوميته... إلخ، وهذا يعني تكريس المزيد والمزيد من الصراعات الوهمية والثنائيات العنصرية.
الإرهاب لا يعرف ديناً
رغم أننا نسمع هذه الجملة كثيراً، وهي صحيحة إلى حدّ ما، ولكنها في حادثة نيوزيلندا تحديداً تأخذ منحىً آخر، فالإرهاب الذي لا يعرف ديناً، يعرف «صراعاً بين الأديان، وصراعَ حضارات»، هذا ما يتم الترويج له وتناقله عبر وسائل الإعلام بشدّة، ويتم التغاضي عن فكرة أساسية تفضي إلى أّن الإرهاب المعاصر هو أحد تمظهرات الفاشية الجديدة؛ أشد أشكال رأس المال المالي العالمي تطرفاً ورجعيّة، الفاشية الجديدة التي من الممكن أن تأخذ أشكالاً عديدة تختلف من منطقةٍ لأخرى حسب طبيعة هذه المنطقة، ولكن يبقى الدور الأساسي لها واحداً في كل مكان؛ وهو تأجيج الصراعات البينية وبث الفوضى مما يشكل متنفساً جيداً للاحتقانات والأزمات التي يعيشها المركز الغربي اليوم في ظل التراجع الذي يعيشه والذي يزداد بوتيرة أسرع كل يوم.
حادثة نيوزيلندا و«الذئاب المنفردة»
يطلق الأميركيون على هذه الظاهرة اسم «الذئاب المنفردة» وهي تتمثّل بقيام شخص أو مجموعة أشخاص بأعمال إرهابية سواء كانوا مرتبطين بمنظمات إرهابية أم لا، وهي ظاهرة عالمية ناتجة عن تعميم الظلم والأفكار المتطرفة والعنيفة، ولكنها غير مرتبطة بالإسلام ولا بأيّ دين أو جماعة دينية أو قومية. وتلعب مسألة الفقر والتخلف والتهميش دوراً كبيراً في تنميتها، لذلك نرى أنّ دول العالم الثالث مرشحة أكثر لازدياد احتمالات التطرف فيها.
وبما أننا نعيش في عالم مسموم بالكراهية، لذلك لا يجوز نهائياً نفي احتمال أن منفذ العملية في نيوزيلندا تم تجنيده والتأثير عليه بطريقة ما حتى زُرع فيه كل هذا الحقد، فمثل هذه الأفعال شديدة التطرف يتم التخطيط لها عبر فترات طويلة من الزمن، ولا تأتي كنتاج لنزعات فردية بحتة أو رغبات انتقامية لدى أحدهم وحسب.
لماذا نيوزيلندا؟
إذا أخذنا مجسماً صغيراً للكرة الأرضية ووضعناه نصب أعيننا، وثبّتنا نيوزيلندا بمركز رؤيتنا، فسيكون المشهد عبارة عن دائرة تحتوي الكثير من المحيطات والبحار، ولا يابسة فيها سوى نيوزيلندا، وأستراليا، والقطب الجنوبي!
هذه الصورة كفيلة بأن تشعرنا بمدى عزلة هذه الدولة عن العالم، وحتى مدى ابتعادها سياسياً عن مجمل القضايا التي تحدث، إذاً لماذا نيوزيلندا؟
ربما يصعب الوصول إلى جواب دقيق حول هذا السؤال، لكن ما تؤكده الحادثة هو أن الإرهاب يخلق نفسه ويجددها دوماً في أكثر المناطق غير المتوقعة، ولا سيّما تلك التي تحمل طابعاً ما، يمكن اللعب عليه كمبّرر، كالطابع الديني لهذه الدولة مثلاً، ولكن أيّاً يكن السبب في اختيار نيوزيلندا دوناً عن غيرها، فهذا لا يعني أنها استثناءً، فالإرهاب قاعدة لا تعرف استثناءً، ولكنها قاعدة هشة لاستمرار منظومة باتت محكومة بالموت، ومضطرة لاستخدام أبشع وأقذر ما يمكن استخدامه في سبيل بقائها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 906