فنزويلا... وانتهاء حقبة التوازن الدولي السابق
معركة جديدة جرى فتحها دولياً في فنزويلا من قِبل الأمريكيين، بسلوكهم المعتاد من تحريض وإشعال أزمات، لينقسم العالم حولها بين داعمٍ ورافض، وفي مقابل واشنطن تكون موسكو مطفأة الحرائق.
بعد محاولة الاغتيال الفاشلة للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في السنة الماضية، تجري الآن محاولة للانقلاب عليه، حيث انطلقت في الأسبوع الماضي موجة من الفوضى عمّت فنزويلا، لينشق بضعة أفراد من العسكر، كل واحد منهم له عشر صحف غربية تتحدث عنه بغاية التضخيم، ولينصّب نفسه من يسمى «زعيم المعارضة» ورئيس البرلمان في فنزويلا، خوان غوايدو، رئيساً مؤقتاً للبلاد، مصحوباً بعد عدة دقائق من إعلانه برضى وبركات واشنطن، تلاه اعتراف بالشرعية من عدة دول غربية قسراً وإملاءً، إلّا أن التوازن الدولي اليوم لا يميل لكفّة أمريكا.
دمية أمريكية
كان أول ما صدر عن الرئيس الفنزويلي مادورو أن يصف معارضه غوايدو بـ«دمية أمريكية»، لكن ورغم اللعبة المفضوحة، وفيما يبدو أنها محاولة احتواء شرارة أزمة، بادر مادورو بالدعوة إلى الحوار مع غوايدو، لكنها قوبلت بالرفض من قبل رأسٍ يجري نفخه أمريكياً، فهذه الألاعيب المبتذلة والمكشوفة تحت مسميات «الديمقراطية والحرية» على الهيئة الأمريكية لا تعني سوى الفوضى، وبمحاولة لإحيائها أكثر أعلن «الملحق العسكري الفنزويلي في واشنطن»، خوسيه لويس سيلفا، عبر تويتر قطع علاقاته مع الرئيس نيكولاس مادورو، داعياً أعضاء القوات المسلحة في البلاد للاعتراف بخوان غوايدو رئيساً للبلاد، ليُصحب أيضاً وعلى الفور ببركات أخرى من واشنطن حيث أشاد غاريت ماركيس، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، بقرار الملحق العسكري الفنزويلي هذا مُحرّضاً عبر تويتر أيضاً وبكل وقاحة: «هذا مثال على حقيقة أنّ دور الجيش هو حماية النظام الدستوري... عليكم أن تلهموا الآخرين ليفعلوا الشيء نفسه»، ليأتي ردّ حاسم من قبل وزير الدفاع الفنزويلي بتصريحٍ رسمي مفاده: «ما نشهده هو محاولة انقلاب على رئيس شرعي».
إذاً ماذا عن «السترات الصفراء»؟
في محاولة لوضع الزيت على النار طالبت واشنطن بعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن حول فنزويلا يوم السبت الماضي، لم ينتج عنه سوى هزيمة أخرى للأمريكي، ليخرج بومبيو من القاعة قبل انتهاء الاجتماع أساساً، وقد تضمن الاجتماع عدة تصريحات لافتة للمندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا، حيث وصف الإنذار الأوروبي المُعطى للحكومة الفنزويلية، بإجرائها انتخابات خلال 8 أيام أو تفقد شرعيتها ليتم الاعتراف بغوايدو رئيساً للبلاد، بالعبثي والمتجاهل لسيادة فنزويلا، مُقارناً الوضع في فنزويلا مع احتجاجات فرنسا حيث قال «بالطبع من الأفضل دائماً منع وقوع الأزمات من حلها بعد اندلاعها... إنكم لا تدعون إلى إيجاد تفاهم بين القوى السياسية لفنزويلا في مصلحة ضمان السلم والهدوء. ما تقومون به ليس حلاً استباقياً بل تحريضاً»، ثم تحدّث متوجهاً إلى المندوبة الفرنسية آنا غوفين «بأي موقف ستلتزمون في حال عرضت روسيا مناقشة مسألة الأوضاع في فرنسا واحتجاجات السترات الصفراء في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة؟ هل ستقيّمون ذلك كحل استباقي؟» مضيفاً: «لكنني أريد طمأنة الممثلة الفرنسية المحترمة، لا ننوي التقدّم بمثل هذه المقترحات».
معركة كسر عظم!؟
في مقابل أمريكا وفرنسا وبريطانيا ومن لف لفهم، أكد الروس والصينيون والإيرانيون وغيرهم دعم الحكومة الشرعية الفنزويلية برئاسة نيكولاس مادورو، في مواجهة دولية بين داعمٍ ورافض، تعكس بشكل واضح الميزان الدولي الجديد.
لكن يبقى السؤال الأساسي، والذي يغيب عن أذهان الكثيرين، هو ليس حول الرفض الروسي مثلاً للتدخل في الشؤون الفنزويلية ومنع غيرها من ذلك، بل لماذا تتدخل دولٌ بشؤون دولٍ أخرى وتفرض نفسها هناك بمنطق أشبه ما يكون بالاحتلال؟ إنه الأمر المعتاد بطبيعة الحال للسلوك الأمريكي، لكن الأسوأ هو من يعتبر واشنطن البوصلة، حيث كان يرى في الحكومة الفنزويلية شرعية، إلى أن أعلن الأمريكيون عكس ذلك، ليتغير موقفه منها بدقيقة.
هذا الزمن الذي كانت أمريكا به شرطيّ العالم قد ولّى، وتسود اليوم علاقات دولية جديدة، حيث لم يعد من الممكن لها أن تفرض نفسها قسراً بأي ملفّ كما السابق، حتى داخلياً وفي شؤونها الخاصة، أصبحت في حالة انقسام مزمنٍ، وتراجعها المستمر لا مهرب منه.
محاولة استبدال العدوّ بحليف
إن محاولة واشنطن صنع الفوضى في فنزويلا يأتي في سياق التراجع ذاته، حيث تُقطّع أيديها دولياً عن تلك القارّات والبلدان البعيدة، فتسعى للبحث عن مصدرٍ آخر تصدّر إليه أزمتها، فيصبح «الأقرب أولى بالمعروف» من ناحية الموقع الجغرافي، في محاولة لإحياء الأوهام بالقوة وعدم التراجع من ناحية، ولإنهاء عدوّ قريب لها واستبداله بقوى حليفة وتابعة تستطيع من خلالها تأمين حديقتها الخلفية في حالة الانكفاء الجاري من ناحية أخرى. لكن حتى هناك، وفي تلك البقعة الجغرافية القريبة منها، والبعيدة عن الروس والصينيين، لم يستطع الأمريكان حتى الآن، ورغم كل ما فعلوه من تصريحات إلى دعوة بمجلس الأمن إلى تصدير أفراد من الجيش الفنزويلي إعلامياً، من فعل أثرٍ يُسجّل لهم، فكل المؤشرات تدل على هزيمتهم، ناهيك عن طرد جميع الدبلوماسيين الأمريكيين من فنزويلا من قبل الحكومة الشرعية.
الفنزويليون أعلم بشؤونهم
أخيراً، من المؤكد أن الوضع في فنزويلا بالمعنى المعيشي والاقتصادي هو في أدنى مستوياته، ومن الطبيعي أن ينتج عن ذلك حالة استياء واحتقان شعبيّ، لكن ما لا يجب الوقوع بالخطأ به هو: اجتزاء الحقائق وتصديق الأوهام، فالمشاكل الاقتصادية هناك تعود إلى حقبة تسبق كلاً من مادورو والحركة التشافيزية كُلها، وتعود أسبابها أساساً للأمريكيين ذاتهم، عبر التدخلات السياسية والاقتصادية منذ ذلك الحين، ناهيك عن العقوبات الاقتصادية برعاية واشنطن طيلة فترة تزعمها الميزان الدولي السابق، والذي أدى إلى عزلة تلك الدول المقاومة لها ومنها فنزويلا. في الوقت ذاته، فإن هذا لا يبرر أخطاء الحكومات الفنزويلية المتعاقبة، لكن من غير المقبول بتاتاً استخدامها ذريعةً للتدخل والإملاء من قبل أيّ أحد، فما بالك بالأمريكي ذي التاريخ الحافل؟
في النهاية، لا يدرك مصالحُ شعبٍ إلا الشعب نفسه، وسوف تسير الشعوب على خُطى تنفيذ مصالحها بالخلاص من آثار الفضاء السياسي القديم بأشكاله المتنوعة، لتتكيّف مع الوضع الدولي الجديد مستفيدةً منه. فكل بقعة من العالم اليوم بحاجة إلى إنجاز تغيير ما، والفنزويليون أدرى من غيرهم بمواضع هذا التغيير في بلادهم وبكيفية إنجازه داخلياً دون تسلّط من أحد.