جيش أوروبي في مواجهة الناتو
دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً إلى القيام بإنشاء جيش أوروبي موحّد، مما أثار جدلاً واسعاً حول هذه الفكرة أوروبياً ودولياً، فهل يصبح حقيقةً أم يكون وهماً؟
إن الخلافات الأوروبية- الأمريكية تتعاظم بمرور الوقت وتذهب في مسارين مختلفين تماماً، المُعلن منها والظاهر، هو: انسحابات واشنطن من الاتفاقات الدولية في مختلف الاتجاهات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وضمناً ما هو خلف الستار تكون الابتزازات المالية على إثر الأزمة الرأسمالية عموماً وتراجع الولايات المتحدة.
قصة قديمة
قبل الدخول بالدعوة الأخيرة لماكرون، يجب العودة قليلاً في الزمن والتذكير بالخلاف الأوروبي- الأمريكي حول الناتو، الذي طفى على السطح حين قام ترامب بالهجوم المباشر على الدول الأعضاء كافة والضغط عليهم لدفع التزاماتهم المالية لواشنطن، واصفاً أمريكا بأنها من قامت بحماية أوروبا بشكل أساس منذ إنشاء حلف الشمال الأطلسي، مطالباً إياهم بتخصيص 4% من الناتج المحلي في كل دولة للشؤون العسكرية، مما أمطر عليه وابلاً من الانتقادات حينها، ليجري بعدها الحديث أكثر عن جدوى الناتو نفسه والحاجة إليه، مما يهدد عملية استيفاء واشنطن لديونها وريعها من وعبر الحلف، ثم بعد وقت قامت واشنطن بالتهديد بالانسحاب من معاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، لتكون هذه الخطوة بأحد جوانبها تهديداً أمنياً مباشراً لأوروبا، يجعل حاجتها لحلف مشترك يوازن القوى العسكرية ضرورة، أي: ضغط أمريكي إضافي على الأوروبيين للتمسّك بالناتو، ولكن حينها تكون أوروبا تحت رحمة واشنطن بشكل أكثر قسوة، ومُضطرة إلى أن تسدد التزاماتها تلك في مقابل الحماية الآنفة الذكر.
ردٌّ لا أكثر
لكن لم يمضِ الكثير من الوقت حتى خرج ماكرون بدعوته تلك رداً على هذه الضغوط، وتهديداً لواشنطن بالمعنى السياسي، حيث أشار إلى ضرورة أن يقوم الاتحاد الأوروبي بحماية نفسه من روسيا والولايات المتحدة ذاتها، ووافقت على هذه الدعوة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي كانت لها حصة خاصة من الهجوم الأمريكي على أعضاء الناتو حين ابتزّها ترامب بخصوص «مشروع السيل الشمالي2» مع روسيا، وأبدت إسبانيا على لسان وزيرة دفاعها موافقتها كذلك، في حين رفضت كلاً من الدنمارك وهولندا.
المعسكر القديم شاخ وانتهى
في الحقيقة قيام جيش أوروبي موحّد هو ضرب من الخيال عملياً نظراً للخلافات الأوروبية الداخلية نفسها، وتعارض المصالح فيما بينهم سياسياً واقتصادياً، إلّا أن الطرح ليس كذلك، بل يأتي بسياقه الطبيعي مُظهّراً تلك الخلافات الداخلية والخارجية مع واشنطن، بكونه هجمة أخرى ضمن سلسلة الهجمات والابتزازات المتبادلة بين الأوروبيين والأمريكيين حول الحلف نفسه، ضمن سباق من يخرج بأقل الخسائر من الناتو قبل استنفاذه وتفككه، وصولاً لتفكك الاتحاد الأوروبي برمّته، وانتهاءً بتفكك المعسكر الغربي على العموم وتبلور العالم الجديد متعدد الأقطاب.