كوميديا أمريكية في «الأمم المتحدة»
ينجب التاريخ من حينٍ إلى حين، شخصيات سياسية ورؤساء دول، يتلبسون كاركتراً كوميدياً، ويضحون مصدراً للسخرية والضحك. في بعض الأحيان يكون هذا الأمر مقصوداً بهدف التقزيم والتصغير من شأن دول تمردت على منظومة الهيمنة السائدة، وأحياناً أخرى قد يكون الأمر انعكاساً لواقع دولة أصبحت بسياساتها وممثليها أضحوكة في سياق العلاقات الدولية، لذلك يُقدَّم رئيسها قرباناً لسياسيات بلده، فيتم تظهيره إعلامياً بأنه شخص مختل وغريب الأطوار.
مارس ترامب في اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة بدورتها الـ73 هذا الدور، قال: أنه «في أقل من عامين أنجزت إدارتي أكثر مما أنجزته كل إدارةٍ تقريباً في تاريخ بلادي»، فضحك الجميع. لم يبدُ عليه أنه يتكلم بصيغة عفوية أو جدية، بل كان قاصداً إيصال شحنة كوميدية، وكأن المقصود من الأمر تثبيت فكرة أمام العالم أجمع، الفكرة القائلة: أن أمريكا- على الأقل منذ سنتين- لم تعد كما كانت في السابق دولة قوية ومسيطرة. والمضحك حقيقةً في الأمر، هو: عجز واشنطن الواضح عن الحشد لسياساتها ضمن مجريات الاجتماع، وفشلها في إقناع الحلفاء قبل الخصوم، وإصرارها على ممارسة دور «الشرطي» الذي لا يعيره أحدٌ انتباهاً.
إيران
كان واضحاً خلال الاجتماعات أن إيران أصبحت على رأس أولويات الإدارة الأمريكية، فدعا ترامب في جلسة خصصت لحظر انتشار أسلحة الدمار الشامل، إلى دعم جهود واشنطن لعزل إيران والضغط عليها، وكرر اتهاماته لطهران بدعم الإرهاب ونشر الفوضى في المنطقة، مهدداً أمام الجميع: أن أي فرد أو كيان لا يمتثل للعقوبات الأمريكية على إيران سيواجه عواقب وخيمة.
لكن دعوة واشنطن إلى عزل طهران انقلبت إلى عزلة أمريكية، فردود الجميع جاءت معاكسة، حيث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أكد التزام إيران بتعهداتها رغم العقوبات الأمريكية. ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي دافعت عن «الاتفاق النووي الإيراني»، معتبرةً إياه أداة فعالة لمنع طهران من امتلاك سلاح نووي. في حين شدد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على أن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي يهدد جهود منع انتشار أسلحة الدمار الشامل. واعتبر وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، إن لكل دولة الحقَ في إقامة علاقات اقتصادية مع إيران.
الصين
أما بخصوص الصين، وبالتزامن مع دخول رسوم جمركية جديدة على بضائع صينية بقيمة 200 مليار دولار حيز التنفيذ، وبدء سريان رسوم صينية مضادة على منتجات أمريكية بقيمة 60 مليار دولار.
صعدت واشنطن من سياستها العدائية خلال مجريات الأمم المتحدة، فاتهم ترامب بكين بمحاولة التدخل في الانتخابات النصفية في الكونغرس المقرر إجراؤها في الولايات المتحدة شهر تشرين الثاني المقبل، بطريقة بدت كوميدية بالفعل عندما قال: «الصين حاولت التدخل في انتخاباتنا القادمة في نوفمبر 2018 ضد إدارتي.. لا يريدون فوزنا لأنني أول رئيس يتحدى الصين في مجال التجارة، ونتفوق عليهم في هذا المجال، نتفوق عليهم في كل مرحلة». الاتهامات التي جاءت دون أية أدلة، رفضها وزير الخارجية وانغ يي، مؤكداً بأن بكين لا تتدخل أبداً في شؤون دول أخرى، وأن بلاده تسعى إلى تحقيق تناغم عالمي.
التصعيد لم يقتصر على ذلك، فالوقاحة الأمريكية المعتادة دفعت ترامب إلى مناشدة العالم لمواجهة الاشتراكية والشيوعية، لكن بكين جاءته بالرد المناسب بأن لكل دولة حقاً في اختيار السبيل والنموذج الاجتماعي للتطور، وأن الشعوب هي صاحبة القرار بشأن ما إذا كان هذا النموذج أو ذاك ملائماً لدولها.
فلسطين
على الصعيد الفلسطيني، وكعادته غَيَّر ترامب موقفه بالقول «يروق لي حل الدولتين. هذا ما أعتقد أنه الأفضل...هذا شعوري». ترامب قال أيضاً: «بعد تحركنا في القدس، يتعين على إسرائيل أن تفعل شيئاً جيداً للفلسطينيين»، وهو ما يعطي انطباعاً بعدم وجود خطة أمريكية، تسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية، أما «صفقة القرن» التي قال أنها تجري على «قدمٍ وساق» فلا يمكن لها أن تخرج عن إطار الحلول المطروحة سابقاً، وعن إطار القرارات الدولية.
ومما يؤكد أيضاً على الفكرة التي قلناها سابقاً بأن نقل السفارة الأمريكية للقدس، قد لا يعدو سوى «جائزة ترضية»، وأقصى ما يمكن أن تقدمه أمريكا المتراجعة للكيان الصهيوني.
أما وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وخلال لقائه بالرئيس عباس على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فقد أعرب عن رغبة روسية برعاية حل للقضية الفلسطينية بالقول: «نود أن نعرف كيف بإمكان المجتمع الدولي، وبالأخص روسيا، الدفع بعملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل بناء على قرارات الأمم المتحدة، ومبادرة السلام العربية».
كوريا الديمقراطية
بخصوص كوريا الشمالية ورغم حديث ترامب عن أن قمة سنغافورة التي جمعته برئيس كوريا الديمقراطية، كيم جونغ أون، «جعلتنا نحبّ بعضنا البعض»- أي هو وكيم- فقد شدد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو على ضرورة تطبيق العقوبات على كوريا الشمالية بشكل صارم، بخلاف نظيريه الروسي سيرغي لافروف والصيني وانغ يي، اللذَيْن طالبا مجلس الأمن بالنظر في إمكانية تخفيف العقوبات على بيونغ يانغ من أجل تفعيل نزع سلاحها النووي.
لكن وزير خارجية كوريا الديمقراطية، يونغ هو، أكد في كلمته التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، إن إجراءات نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية يجب أن تتزامن مع رفع العقوبات.
لا يبدو أن الأمور تجري كما تشتهي واشنطن ولا على أيِّ صعيد، أصبح الجميع تقريباً يعارض ما تريده، وأصبحت هنالك أطراف أخرى يتحقق لها ما تريد بحكم واقعيته وصحته، وبحكم تغير الموازين، مما جعل دور الشرطي الأمريكي الفاشل ينقلب إلى دور مهرِّجٍ بائسٍ.