لا تعاتبوا ترامب!
بعد تخبط طويل دام عدة أشهر، اتخذ ترامب قرار الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، بزعم وجود بنود مجحفة فيه يجب تعديلها. فما هي مبررات اتخاذ هذا القرار؟ وما هي مآلاته وانعكاساته على العلاقات الدولية مع إيران؟
تكمن أهمية الاتفاق النووي الإيراني، والذي وُقِّع بين إيران ومجموعة الـ«5+1» في عام 2015، بأنه استطاع البدء بكسر واحدة من أهم أدوات الاستعمار الجديد في العالم، وهي: قانون «التبادل اللامتكافئ». فإنّ تمكّن دولة «عالم ثالث» من الحصول على حقها في امتلاك تقنيات نووية، وحقها في تصدير الماء الثقيل الأساس في إنتاج الطاقة النووية، سيجعل منها نموذجاً لبناء اقتصاد وطني حر من الهيمنة والاحتكار الدوليين.
ما الذي تريده أميركا من الانسحاب؟
لدى الإجابة عن هذا السؤال، يجب تثبيت النقاط التالية؛ أولاً: وبالعام، فإنّ قرار التراجع عن الاتفاق يأتي ضمن محاولات قوى الحرب بخلق بؤر توتر في أكثر من ملف حول العالم، ولاسيما دول شرق المتوسط وشرق آسيا؛ أي: الدول المحيطة حيوياً بروسيا والصين، خصوم الولايات المتحدة الأميركية ومنافسيها.
ثانياً: وبالخاص، جاء القرار بمثابة ردّ على سياسات إيران المعادية للولايات المتحدة الأميركية، فقد أوعزت الحكومة الإيرانية مؤخراً لجميع الجهات الرسمية بالتعامل باليورو بدل الدولار في المعاملات الرسمية، واعتماد العملة الأوروبية في إعداد التقارير ونشر الإحصائيات والمعلومات المالية، وهو ما يعد تهديداً كبيراً للدولار، الذي هو واحد من أهم أدوات الهيمنة الأميركية. وبناءً على ذلك، فقد رأت بعض الأوساط ضمن دائرة الصراع الأميركية، أن قرار الانسحاب يصبّ في مصلحتها لأنه يسمح بفرض عقوبات على إيران، وبالتالي تقييد إيران. فكانت محصلة هذا الصراع هو قرار الانسحاب في محاولة لاسترجاع الهيمنة الأميركية التي فُقدت من خلال الاتفاق النووي الإيراني.
وفي هذا السياق كشف غلام رضا مصباحي، عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران، إن وزارة الخزانة الأمريكية هي بمثابة «غرفة الحرب» التي تشن ضد إيران. وقال« إن جميع المحاولات التي يسعى إليها الرئيس الأمريكي، وحتى قرارات مجلس الأمن السابقة ضد إيران، تعود إلى وزارة الخزانة»، وشدد مصباحي على أن كل الحملة ضد ايران، هي بمثابة ابتزاز وإحدى الأدوات الأمريكية في حرب العملات، أي: إحدى محاولات حماية الدولار، ولا علاقة لها بالملف النووي، ولا بالتهديدات الإيرانية المزعومة ضد حلفاء أمريكا.
ترامب ينعق بقراره وحيداً
تباينت ردود الأفعال عالمياً من قرار الانسحاب، إلا أنّ اللافت فيها كان إجماع باقي أطراف الاتفاق على الالتزام فيه، فقد وصف الرئيس الفرنسي ماكرون القرار بأنه «خطأ»، فيما أكدّ وزير خارجية بريطانيا بوريس جونسون التزام بريطانيا بالاتفاق. المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل صرّحت بأن: «أوروبا ستقوم بكل ما يلزم لإبقاء إيران في الاتفاق النووي»، كذلك أكدت كل من روسيا والصين التزامها بنص الاتفاق، وأعرب بوتين عن «قلقه البالغ حيال هذا القرار».
مما سبق، يتضح جليّاً: مدى العزلة الأمريكية التي ازدادت بعد الانسحاب، ومدى تعمّق حجم الأزمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها التقليديين، وفي مقدمتهم: الأوروبيين الساعين نحو خيارات بديلة، وخير دليلٍ على هذا هو تصريح ميركل الذي قالت فيه:« انتهى الزمن الذي كانت فيه الولايات المتحدة تحمينا بكل سهولة، ويجب على أوروبا أن تأخذ مصيرها بيدها، وفي ذلك تكمن مهمتنا في المستقبل». وهنا يطرح سؤالٌ نفسه: لماذا يصرّ الأوروبيون على التمسك بالاتفاق؟
سرّ إصرار الأوروبيين على الالتزام بالاتفاق
إنّ فرض عقوبات على إيران سيلحق ضرراً كبيراً بالمصالح الاقتصادية لأوروبا، فقد أشار وزير الاقتصاد الألماني إلى وجود 10 آلاف شركة ألمانية تعمل مع إيران، كما ارتفعت الصادرات الألمانية إلى إيران، العام الماضي من حوالي 400 مليون يورو إلى نحو ثلاثة مليارات يورو.
وسرعان ما أحدث القرار الأميركي أثره، إذ تراجعت أسهم الشركات الفرنسية التي تربطها علاقات عمل مع إيران، مثل: «بيجو، سيتروين» لصناعة السيارات و«إيرباص» للطائرات، الأمر الذي ينطبق على شركات أخرى أيضاً.
نتائج الانسحاب
على المدى القريب: ستزداد درجة غليان الملفات العالقة على الساحة الدولية، ولكنها سرعان ما ستبرد. على المدى البعيد - وليس كثيراً- فإن فرض عقوبات على إيران وتقييدها، سيقودها باتجاه تعميق علاقاتها مع الشرق أكثر، وهذا ما لاحت بوادره في إعلان الكرملين عن أنّ «الاتحاد الاقتصادي الأوراسي» سيوقع اتفاقية مؤقتة للتجارة الحرة مع إيران، الأسبوع المقبل، بموازاة توقيع الاتحاد اتفاقية تعاون تجاري اقتصادي مع الصين. كما أكدت شركة طائرات «سوخوي» المدنية الروسية أنها ستستمر بالتعاون مع شركات الطيران الإيرانية في إطار العقود الموقعة لتوريد طائرات «سوخوي سوبرجت 100» على الرغم من العقوبات الأمريكية.
إضافةً إلى ذلك، فإنّ شركة الطاقة «cnbc» الصينية التي تملكها الحكومة تخطط للاستحواذ على حصة شركة «توتال» الفرنسية، في مشروع حقل «بارس الجنوبي» الضخم في إيران، وذلك فيما إذا انسحبت الشركة الفرنسية مع إعلان فرض عقوبات أميركية جديدة على طهران.
آثار معاكسة!
حاولت قوى الحرب إثارة الخلافات سابقاً في العديد من الملفات الدولية، وكمثالٍ ليس بعيداً عنّا زمنياً؛ ملف الأزمة بين الكوريتين الذي عملت الولايات المتحدة الأمريكية على إشعاله مراراً، ودأبت على التهديد والوعيد بمعاقبة كوريا الديمقراطية، حتى انتهى الأمر بمصالحة بين الكوريتين والخروج من هذا الملف بخفيّ حُنين، لا بل رضوخ الأمريكيين للأمر الواقع والإعلان عن لقاء قريب بين ترامب والرئيس الكوري كيم جونغ أون. فحتى مشاريع «الفوضى الخلاقة» باتت تسقط واحد تلو الآخر، لا بل وتنعكس سلباً على مموليها.
قد يبدو القول: أنّ قرار الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني سيرتدّ عكسياً على الولايات المتحدة الأميركية مثيراً للاستغراب لدى البعض ممّن مازال يعاني من أعراض حالة الإنكار الفرويدية، فالواقع القائل: أن ميزان القوى الدولية يتغير ويرجح لعكس صالح قوى الحرب، يفرض نفسه بالدلائل وبتسارع غير مسبوق على ساحات الصراع الدولي كافةً، وملف النووي الإيراني واحدٌ منها. إنه التخبط، فلا تعاتبوا ترامب!