بريطانيا ومأزق الـ «بريكست»
يرى العديد من المراقبين أن الحكومة البريطانية اليوم محاطة بالأزمات، وهي في موقفٍ ضعيفٍ في ما يتعلق باتخاذ القرارات اتجاه قضايا عدة، خارجية وداخلية...
ينطبق هذا على الموقف من الاتفاق النووي الإيراني، والعلاقات مع روسيا، وأهمها: مسألة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، التي لا تزال تواجه العديد من العقبات والتعقيدات، مما يجعل البلاد عالقة بين مساوئ العودة للاتحاد الأوروبي، وصعوبة الانفكاك عنه بحكم الارتباطات التاريخية. وفي هذا السياق يشير الكاتب، مايكل بلومبيرغ، إلى واحدة من أهم تلك التعقيدات، والمتعلقة بالانسحاب من اتحاد الجمارك الأوروبي وتأثيره على بريطانيا...
من سيءٍ إلى أسوأ؟
حسب الكاتب، فإن حكومة تيريزا ماي لا تزال تطلق الوعود بالرحيل عن اتحاد الجمارك التابع للاتحاد الأوروبي بمجرد إنجاز «البريكست» العام المقبل. ويبدو موقف رئيسة الوزراء متفهماً من الناحية السياسية، لكن من المتعذر تماماً الدفاع عنه.
ويعكس هذا الموقف المأزق الذي وضعت بريطانيا نفسها فيه. حيث من شأن البقاء داخل اتحاد الجمارك التابع للاتحاد الأوروبي بعد «البريكست»، أو الانضمام إلى نسخة منه مصممة خصيصاً لها، أن يترك المملكة المتحدة أمام اتفاقٍ أسوأ عما عليه الحال الآن، في ظل تمتعها بعضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي. ويسود هذا الاعتقاد في صفوف أنصار الاستمرار داخل الاتحاد الأوروبي، بل وربما يتفق معهم الكثير من أنصار الرحيل. في الواقع، مجرد اقتراح مثل هذه النتيجة يعني: أن مجمل مشروع «البريكست» قد اتخذ منحىً خاطئاً. وفي هذه الحالة فإنه من الواضح ولأسباب مفهومة، أنه ليس لدى ماي وزملائها استعداد للاعتراف بذلك.
ورغم كل القيود التي تفرضها الترتيبات المرتبطة باتحاد الجمارك، فإن الخروج من الاتحاد الأوروبي دون إبرام أي اتفاق_ فيما يطلق عليه «البريكست الصعب»_ يعني: مواجهة البلاد وضعاً أسوأ بكثير. كما سيشكل ذلك تهديداً للسلام في آيرلندا الشمالية لأنه سيتطلب فرض حدود مغلقة بصرامة بين آيرلندا الشمالية وجمهورية آيرلندا.
«البريكست» الصعب
يعتبر الكاتب: أن البقاء داخل اتحاد الجمارك من شأنه تقليل جميع هذه المخاطر. وجدير بالذكر أن أعضاء أي اتحاد جمركي يفرضون تعريفة خارجية مشتركة على السلع، بينما تبقى التجارة بين بعضهم البعض معفاة من أية تعريفات. ومن ثم، لن يحل اتحاد الجمارك مشكلة الحدود، لكنه سيساعد على حلها. في تلك الأثناء، سيشعر المصدرون البريطانيون بالارتياح لدى علمهم أن تعاملاتهم التجارية مع الاتحاد الأوروبي لن تتوقف فجأة.
تكمن المشكلة في أن اتحاد الجمارك يحول دون إبرام المملكة المتحدة اتفاقات جديدة من تلقاء نفسها، الأمر الذي يقضي على واحدة من الفوائد الأساسية المفترضة في «البريكست». الأسوأ من ذلك، أن بريطانيا سوف تلتزم العمل بالاتفاقات التجارية القائمة بين الاتحاد الأوروبي وأطرافٍ ثالثة، رغم افتقارها إلى القدرة على التصويت بشأنها، وعدم وجود ضمانات لأن تشارك في جني ثمارها التي ستعود على أعضاء الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت الذي ينظر فيه نصف سكان المملكة المتحدة بالفعل على نحوٍ سلبي إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، فإن مثل هذه الترتيبات الظالمة ستزيد الوضع سوءاً بالتأكيد.
علاوة على ذلك، فإن لدى أنصار «البريكست» سبباً للاشتباه في أن أنصار البقاء داخل اتحاد الجمارك لديهم أجندة خفية، خاصة أن هذه التسوية تعني: اعترافاً ضمنياً بأن قرار «البريكست» كان خاطئاً، وبالتالي يبدو الأمر وكأنه خطوة أولى نحو دفع قطار «البريكست» نحو الاتجاه المعاكس.
بيد أن أنصار «البريكست» أنفسهم ليس لهم أي حق في الشكوى، ذلك أنهم في ظل قيادة تفتقد الثقة في سياساتها، فشلوا في تقديم أي طرح يبدو منطقياً، كيف يمكن أن يحالف النجاح المسار الذي اقترحوه تحت عنوان «البريكست الصعب».
أزمة سياسية مرتقبة
ينهي الكاتب مقاله بالقول: إن التصويت على قرار «البريكست» كان خطأً، ويجب العمل على تصحيحه الآن، وليس لاحقاً. ورغم أن غالبية أعضاء البرلمان البريطاني يعارضون «البريكست»، فإنهم لم يتحركوا حتى الآن نحو الاضطلاع بمهام مناصبهم والالتزام بقناعاتهم. وعليه، وجدت البلاد ومشرّعوها أنفسهم في مواجهة ضرورة الاختيار ما بين السيئ والأسوأ.
ومن غير الواضح حتى هذه اللحظة، كيف ستتغلب البلاد على هذا الغياب الكارثي للقيادة، خاصة في ظل عدم وجود مرشح مؤيد للاتحاد الأوروبي لمنصب رئيس الوزراء من قبل أيَّ من الحزبين الكبار. كما تبدو البلاد منهكة، ولا تلقى الدعوات نحو عقد استفتاء جديد_ يدفع قطار «البريكست» في الاتجاه المعاكس_ استجابة تذكر. وعليه، يبدو أن وقوع أزمة سياسية كبرى السبيل الوحيد للفكاك من حالة الشلل الجماعي التي تعانيها البلاد.