ضرورات كاركاس وأحقّيّة التغيير الجذري

ضرورات كاركاس وأحقّيّة التغيير الجذري

باشرت «الجمعية التأسيسية» في فنزويلا أعمالها في بداية شهر آب الماضي، وسط احتجاج داخلي وإقليمي واسع على هذه الخطوة التي جردت السلطة التشريعية (البرلمان) - المسيطر عليه من قبل المعارضة- من صلاحياتها بشكل كامل، وذلك في الوقت الذي يشهد فيه الشارع الفنزويلي انخفاضاً ضئيلاً في الصدامات التي جرت خلال الأشهر الأخيرة، بالتزامن مع بدء جلسات الحوار بين الحكومة والمعارضة التي تستضيفها جمهورية الدومينكان...




لا يمكن اعتبار الانخفاض النسبي في حالة العنف بأية حال من الأحوال ناتجاً عن تخفيض مستويات الأزمة على الأصعدة السياسية كافة والاقتصادية، إلا أنه يتزامن مع حالة ترقب مرحلية، مرافقة لحالة الحوار التي بدأت فعلياً دون الوصول إلى نتائج نهائية، وسط تفاؤل حكومي لا يقابل بالمثل من جانب المعارضة اليمينية حتى الآن.

الحوار نقيض العنف
بعد دعوات مستمرة من الحكومة الفنزويلية لفتح طاولة الحوار مع المعارضة، نجح الطرفان بعقد جلسات أولية في جمهورية الدومينكان، التي قال رئيسها، دانيلو ميدينا: إن المرحلة الحالية هي لوضع برنامج يؤدي إلى مفاوضات نهائية للأزمة السياسية.
في هذا الإطار، يقول الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو: إن الحكومة والمعارضة بعد أسابيع من المحادثات، باتت قريبة جداً من إنهاء الأزمة السياسية في البلاد، بينما تستمهل الحكومة في إبداء التفاؤل حول هذا الحوار، كونها مطالَبة - حسب مصادر صحفية- بالاعتراف بالجمعية التأسيسية، في الوقت الذي تطلب فيه هي أيضاً شرطاً استباقياً حول إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وتحديد جدول زمني للانتخابات، هذه الشروط لا تدعم إعلان الحكومة عن قرب الاتفاق بين الطرفين، ومن المرجح أن تشهد المرحلة المقبلة المزيد من جولات الحوار بهدف تذليل هذه العقبات، وفي سبيل ذلك، اتفق الطرفان على إنشاء لجنة تضم ممثلين عن «دول صديقة»، للمساعدة في المفاوضات التي تستضيفها الدومينكان، ويرعاها الرئيس دانيلو ميدينا، إلى جانب رئيس الحكومة الإسباني السابق خوسيه ثاباتيرو.
وتشهد جلسات الحوار هذه دعماً روسياً، حيث رد مسؤول «دائرة أمريكا اللاتينية» في وزارة الخارجية الروسية، ألكساندر شيتينين، على تصريحات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الذي هاجم الحكومة الفنزويلية من منبر الجمعية العمومية في نيويورك، بالقول: «إن موسكو ترفض أي تدخل خارجي في الأزمة الفنزويلية وتعتبره هداماً ولن يزيد الوضع إلا تعقيداً»، موضحاً أن «الحل في فنزويلا يبدأ قبل كل شيء من مراجعة المسائل المتعلقة بالمشاكل الاجتماعية والاقتصادية»، ومبيناً أن «روسيا مستعدة للقيام بكل ما بوسعها لمساعدة فنزويلا في حل هذه المعضلات، وذلك بما يتلاءم مع المتطلبات التي تبديها الحكومة الفنزويلية والتي تصب في مصلحة حل الأزمة التي تعصف بالبلاد».
في المقابل، يبدو الموقف الأمريكي متقلباً، فالمتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية، هيذر نوريت، قالت: «أن الولايات المتحدة تدعم الحوار الفنزويلي الداخلي وترحب بجهود جمهورية الدومينكان التي تبذلها لإقامة هذا الحوار»، في الوقت الذي يستمر فيه الرئيس ترامب، بتصعيد الخطاب والإجراءات ضد فنزويلا، والتي كان آخرها التهديد بالتدخل العسكري، وحزمة عقوبات صارمة على فنزويلا من شأنها عرقلة إيصال شحنات النفط الفنزويلي إلى الولايات المتحدة.

عن الحلول الجذرية
لا شك أن واشنطن تسعى جهدها لإخضاع كاركاس بالمعنى السياسي، وتستكمل إخضاعها بالمعنى الاقتصادي بعد عقود من النهب والاستغلال لثروات البلاد، وذلك بالاستفادة من أزمتها الداخلية وحالة العنف التي شهدتها في الأشهر الأخيرة، لكن بالمقابل، تحتاج الحكومة الحالية إلى الشروع بإجراءات أكثر جذرية من الناحية الاقتصادية- الاجتماعية استكمالاً لما كان قد أشار إليه الرئيس السابق، هوغو تشافيز، في آخر حوار تلفزيوني له على فضائية «TeleSur» اللاتينية، حيث عبَّر صراحةً عن خطورة الاعتماد على الريع النفطي بشكل مطلق، دون التنويع بالموارد حسب خصوصية فنزويلا، وإمكانات الاستثمار فيها.
 من هنا، يمكن القول: إن استمرار الحوار والوصول إلى قواسم مشتركة هو أمر ضروري، لكنه غير كافٍ للقول بأن فنزويلا خرجت فعلياً من أزمتها العميقة، حتى أن فرص الدعم الاقتصادي الممنوحة لها من قبل الصين وروسيا، من الممكن أن تذهب هدراً فيما لو استمرت البنية الاقتصادية الفنزويلية دون تغييرات عميقة وجذرية، كون هذه البنية مكبلة بعقود طويلة الأجل مع شركات النفط الأجنبية.
تبدو الفرصة متاحة حتى الآن للانتقال بفنزويلا نحو نموذج اقتصادي متجدد يستفيد من حسنات النهج البوليفاري لتشافيز في الجوانب الاقتصادية- الاجتماعية، لكن هذا يبقى مرهوناً بالعوامل الذاتية الخاصة بالحكومة وقدرتها على التعاطي مع واقع الأمور في المرحلة الحالية، فإذا كان خيار «الجمعية التأسيسية» خياراً شبه ملزم للحكومة رغم آثاره السلبية، فالملزم في المرحلة المقبلة هو تحديد دقيق لمتطلبات الاقتصاد الفنزويلي وخطط العمل الجديدة في هذا الإطار، والانتقال من حالة «منع انهيار البلاد»، إلى مرحلة التغيير الممنهج لمعوقات التنمية الفنزويلية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
829