العد التنازلي لـ«Brexit»: وداعاً للاتحاد الأوروبي

العد التنازلي لـ«Brexit»: وداعاً للاتحاد الأوروبي

أقرت الحكومة البريطانية تفعيل «المادة 50» من اتفاقية لشبونة للاتحاد الأوروبي القاضية بإجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي، على أن تنطلق المفاوضات بين بريطانيا والاتحاد في 29 من شهر آذار. ويأتي ذلك بعد تسعة أشهر من الاستفتاء على هذه الخطوة في 23/تموز/2016.

 

استمر الشد والجذب بين لندن وبروكسل، طيلة الأشهر التسعة الماضية، إذ يحاول الطرفان تحصيل أقل النتائج ضرراً على كل منهما، وإن اتفق الطرفان على هذا الهدف من المفاوضات المرتقبة، فإن الطرفين كليهما له رؤيته الخاصة، التي يمكن التماسها من تصريحات المسؤولين الأوروبيين والبريطانيين حتى الآن، بانتظار ما ستنتجه جولات المفاوضات المرتقبة...

عدوى الانفصال الأوروبي

قبل الدخول في تفاصيل الخلاف بين لندن وبروكسل، حول إجراءات الانفصال، تجدر الإشارة إلى ظهور نوايا انفصال واسعة النطاق داخل الاتحاد الأوروبي، كما هو الحال في البرتغال وإيطاليا، بينما تظهر بوادر التشنج في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي في الحملة الانتخابية لـ«ماري لوبان» في فرنسا.

أعطت هذه الإشارات انطباعاً سائداً داخل البيت الأوروبي وخارجه، عن بداية النهاية لهذا التكتل، والذي انتهت ظروف استمراريته بانتهاء دوره الوظيفي، المستند إلى مجابهة الاتحاد السوفييتي منذ عام 1957، وحتى تفككه بداية التسعينات من القرن الماضي، كخط دفاع سياسي وعسكري متقدم للولايات المتحدة في وجه الاتحاد السوفييتي، أي أن هذه المجابهة لم تكن أوروبيةً خالصةً، بل كانت ضمن منطق توزيع الأدوار عالمياً من قبل الولايات المتحدة ذات القوى المتعاظمة حينها.

وبالتالي، فإن خروج بريطانيا، يأتي في أحد أوجهه الأساسية تفادياً لتبعات الأزمة التي تعصف بالمركز الإمبريالي الأمريكي، سياسياً واقتصادياً، وتظهر تداعياته في العالم بأسره، وفي أوروبا ضمناً، وسيستمر طالما أن واشنطن تفقد قدرتها (والآن رغبتها) في الدفاع عن وحدة التكتل الأوروبي، والعنصر الأهم فيه بالنسبة لواشنطن «حلف الناتو». لكن هذا لا يعني خروج دول الاتحاد الأوروبي من تحت المظلة الأمريكية بشكل كيفي، بل إن واشنطن تحاول موائمة التغيرات الأوروبية بما يخدم ضرورات المرحلة الحالية، من التموضعات الدولية الآخذة بالتشكل، والدليل هو في التنسيق البريطاني- الأمريكي واسع النطاق في القضايا الدولية الراهنة، كالأزمة السورية واليمنية والملف الأوكراني، ومن جهة أخرى، استمرار واشنطن في دفع دول أوروبا الأخرى باتجاه تصعيد الخطاب وتثبيت العقوبات بمواجهة روسيا.

شبح  انفصال اسكتلندا

في السياق نفسه، تدرك الدول التي يمكن القول عنها أنها دول «أطراف» في أوروبا- من حيث قدراتها الاقتصادية والعسكرية- أن التغيرات في أوروبا آتية بالتداعي، ولن تستثني أحداً وبالتالي تحاول القيام بخطوات استباقية لتخفيف الأضرار المحتملة عن اهتزاز الكتلة الأوروبية، والبحث عن نماذج خاصة بها من ناحية العلاقات الاقتصادية والسياسية في أوروبا والعالم، وبالطبع فإن ذلك ليس بالأمر السهل، لكنه أحد المسارب القليلة المتاحة في ظل حالة التخبط التي يعيشها الاتحاد الأوروبي.

من بين هذه الدول الدائرة في فلك الرأسماليات الأوروبية الكبرى، تبدو اسكتلندا، إحدى دول المملكة المتحدة، متضرراً مباشراً من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، نتيجة لاعتمادها الكبير على الاتفاقيات الاقتصادية المتاحة من قبل الاتحاد الأوروبي في الدخول إلى الأسواق الأوروبية بمنتجاتها، إضافةً إلى إلغاء عشرات آلاف الوظائف، إذا التزمت بقرار المركز في لندن بالخروج من الاتحاد الأوروبي.

وفي هذا السياق دعت رئيسة حكومة اسكتلندا، نيكولا ستورجن، في 21/آذار الحالي، الحكومة البريطانية في لندن إلى الموافقة على طلب تنظيم استفتاء جديد، حول استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة.

وطالبت بـ«تفويض ديمقراطي لا غبار عليه»، مشيرة إلى أنه «من الممكن أن يؤدي خروج المملكة المتحدة من الاتحاد إلى إلغاء عشرات آلاف الوظائف في اسكتلندا»، وبينت أنه «تم رفض كافة جهود البحث في التسوية مع الحكومة البريطانية، حيث رفضت لندن نقل المزيد من السلطات للبرلمان الإقليمي الاسكتلندي ليتسنى للاسكتلنديين البقاء في السوق الأوروبية الموحدة».

هنا يمكن القول أن لندن إذ تحاول الهرب من مشاكلها المستقبلية المحتمل ورودها من منظومة الاتحاد الأوروبي، لكن عليها مواجهة مشاكل أخرى في المدى المنظور، ومنها مسألة انفصال الاسكتلنديين، ومسألة المستحقات المالية الكبيرة للاتحاد الأوروبي والمقدرة بحوالي 60 مليار يورو، والتي ستكون واحدةً من نقاط التفاوض العسيرة بين لندن وبروكسل، إضافةً إلى جملة من المشاكل ذات الطابع الاقتصادي كما تشير إليه التقارير الاقتصادية الغربية...

اقتصاد ما بعد بريكست

في تفاصيل الحسابات الاقتصادية لبريطانيا، كإحدى محددات الخروج من «البيت» الأوروبي، تجدر الإشارة إلى أنها ساهمت في ميزانية الاتحاد الأوروبي بـ35 مليون جنيه استرليني يومياً، وفي العام 2015، بلغت رسوم العضوية للمملكة المتحدة بأكملها 8.17 مليار جنيه استرليني، كما أن مساهمتها في ميزانية الاتحاد الأوروبي العام الماضي، بلغت أكثر من الميزانية السنوية لوزارة الداخلية البريطانية، والتي تقدر بحوالي 9 مليارات جنيه، وتعود تلك المساهمات في شكل إعانات ومنح، في مختلف مشاريع التنمية الاقتصادية والبحث العلمي الحاصل على تمويل الاتحاد، ذلك بحسب «ديلي تلغراف» البريطانية.

في المقابل، فإن مدفوعات الاتحاد الأوروبي لبريطانيا بلغ 4.4 مليار جنيه إسترليني خلال العام 2015، وفي هذه الهوة بين المدفوعات والمكاسب البريطانية، يتبين عامل آخر من عوامل الذهاب سريعاً نحو تنفيذ البريكست، لكن هذا الخيار الذي من شأنه أن يوفر مبالغ ضخمة على بريطانيا سنوياً، سيقابل من جهة أخرى بتغيرات كبيرة ستنعكس سلباً على الأوضاع المعيشية لمواطني إحدى الدول التي اعتادت مستويات عاليةً من الإنفاق والاستهلاك.

حيث قدر تقرير أعده «المعهد الملكي للمساحين القانونيين» البريطاني خسائر بريكست بنحو نصف مليار جنيه استرليني في مشروعات البنية التحتية، ونحو 200 ألف عامل في مجال العقارات والإنشاءات، ويعمل 176 ألف عامل من أصحاب الجنسيات الأوروبية في مجال الإنشاءات في بريطانيا، وهم يمثلون 8% من إجمالي العاملين بالقطاع.

ويقول رئيس المعهد، جيرمي بلاكبرن، إن سوق العقارات والإنشاءات البريطانية مهدد بخسارة 500 مليون جنيه في حال توقف مشاريع البنى التحتية في بريطانية، بحسب ما نقلته صحيفة «ذي إندبندنت».

كما أعربت عدة قطاعات، مثل: الصحة والتكنولوجيا والزراعة والعقارات، عن تخوفها من أن تواجه صعوبات في توظيف العمالة المطلوبة في حال تم فرض قيود على الهجرة عقب «بريكست». وتأثر الجنيه الاسترليني أيضاً منذ الاستفتاء في 23/تموز/2016 لتخفض قيمته بنسبة 18% أمام الدولار الأمريكي.

هذه التداعيات الاقتصادية المحتملة، لا شك أن بريطانيا بصدد معالجتها قدر الإمكان، بالحفاظ على مكتسبات الاتحاد الأوروبي التي تسمح بنمو الاقتصاد البريطاني، كالرسوم الجمركية وحركة المواطنين الأوروبيين من وإلى بريطانيا، لكن هذا مرهون أيضاً بمرونة لندن في مفاوضاتها المرتقبة مع بروكسل.

لكن المؤكد اليوم، أن لندن اتخذت قرارها بشكل ناجز وستسعى لإتمامه، والبحث عن نموذج علاقاتها الاقتصادية الدولية الخاصة، سواء في المحيط الأوروبي، أو في باقي دول العالم التي من الممكن أن بريطانيا زارتها مستعمرةً فيما مضى، لكن اليوم على أسس جديدة تحكمها موازين القوى الدولية الجديدة!

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
803