عن النصر والهزيمة.. «إسرائيل» تحت المجهر!
يُقاس النصر الحقيقي في الصراعات الوازنة والتي تحمل بعداً استراتيجياً بمدى قدرة أحد الطرفين على منع خصمه من تحقيق أهدافه وفرض سياساته في الوقت الذي ينجح فيه هو بتمرير سياساته. بناءً على هذا المفهوم، يمكن القول إن المعركة الأخيرة بين إيران و«إسرائيل» – التي استمرت 12 يوماً في يونيو/حزيران 2025 – حملت في طياتها دلالات واضحة حول النصر والهزيمة. فرغم القوّة العسكرية «الإسرائيلية» المدعومة أمريكياً، لم تستطع «إسرائيل» تنفيذ أهدافها المعلنة، بينما تمكّنت إيران من شلّ قدرة تل أبيب على فرض إرادتها العسكرية والسياسية، وتوجيه ضربة للمشروع «الإسرائيلي» المعلن والمسمّى «الشرق الأوسط الجديد»...
الأهداف «الإسرائيلية» - الأمريكية المعلنة.. والواقع!
أعلنت تل أبيب منذ البداية أهدافاً واضحة للهجوم تمثلت في: (1) تدمير برنامج إيران النووي، (2) تدمير برنامجها الصاروخي الباليستي، (3) إسقاط النظام في إيران. ودعمت الولايات المتحدة هذه الأهداف. عملياً، نجحت «إسرائيل» في إلحاق أضرار جسيمة ببعض المنشآت النووية الإيرانية بالتنسيق الوثيق مع واشنطن، حيث استهدفت ضربات أمريكية مواقع حيوية مثل «فوردو» و«نطنز» و«أصفهان»، مما أخَّر تقدّم البرنامج النووي. كذلك اغتالت «إسرائيل» خلال العملية 11 عالماً نووياً إيرانياً ضمن عملية «نارنيا» بغية حرمان إيران من خبراتها العلمية.
لكن مع ذلك، لم تستطع «إسرائيل» تحقيق أهدافها الاستراتيحية العليا. فقد أقرّ حتى محللون «إسرائيليون» بأن الضربات لم تُدمر البرنامج النووي الإيراني بالكامل، وكذلك دحضت هيئة الطاقة الذرية مزاعم أمريكا حول تدمير «كامل المنشآت النووية» في إيران، ليتبيّن أن المنشآت تعرضت للتعطيل المؤقت فقط. وفي السياق ذاته، أكدت تقارير استخباراتية أمريكية بعد الهجمات أن البنية النووية الإيرانية لم تتضرر جذرياً؛ «إذ يستحيل تدمير منشأة محصّنة كفوردو إلا بقنابل نووية». كما بقيت عناصر المعرفة والتكنولوجيا والمادة المخصبة الإيرانية سليمة إلى حد كبير، ما يجعل إعادة بناء ما تضرر مسألة وقت فقط.
أي في الواقع، احتفظت إيران بمخزونها من اليورانيوم عالي التخصيب في «فوردو» وغيرها من المنشآت دون مساس غرام واحد منه. وأيضاً، لم يسقط النظام الإيراني كما كانت تأمل تل أبيب وبعض القوى الغربية؛ بل ظلَّت مؤسسات الحكم متماسكة والمرشد على رأس السلطة بدعم شعبي واضح. وبهذا، فإن الضربة «الإسرائيلية» فشلت في تقويض أركان النظام أو تأليب الشارع الإيراني ضده خلال أيام القتال وموقف المعارضة الإيرانية لافت ومهم جداً في هذا السياق.
أمّا برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني فالوضع كان أوضح. فعلى الرغم من تدمير «إسرائيل» لعدد من المنصات، نجحت إيران في إطلاق ما يزيد عن 500 صاروخ (بينها صواريخ باليستية وفرط صوتية) طيلة أيام الحرب. واستمرت الصواريخ الإيرانية تتساقط حتى اللحظات الأخيرة قبل وقف إطلاق النار، ما يدلّ على عجز «إسرائيل» عن شلّ قدرة إيران الصاروخية أو استنزاف مخزونها بالكامل. أثبتت إيران عملياً أنها إحدى الدول الرائدة عالمياً في تكنولوجيا الصواريخ الباليستية فرط الصوتية القوية، وبقيت لديها أجيال أحدث لم تستخدم بعد، مما يعني احتفاظها بقوة ردع هجومية لأي مواجهة مستقبلية.
عوامل الضعف «الإسرائيلي» التي كشفتها الحرب
كشف مسار الحرب عن عدة مواطن ضعف بنيوية لدى «إسرائيل» أضعفت موقفها وحالت دون ترجمة أي إنجاز عسكري إلى نصر حاسم. أول هذه العوامل هشاشة جبهة الدفاع الداخلي «الإسرائيلي». فرغم امتلاك «إسرائيل» منظومات اعتراض متطورة، إلّا أنّها فشلت في اعتراض الصواريخ الباليستية الإيرانية التي اخترقت الدفاعات ووصلت لمناطق مأهولة ومواقع استراتيجية، مسببة أضراراً جسيمة. واعترف مسؤولون أن الدفاعات «الإسرائيلية» تتوقع عادةً نسبة اختراق 10-15% فقط من الصواريخ، لكن النسبة كانت أعلى بكثير هذه المرة (تتجاوز الـ 50% وفق بعض التقارير).
ونتيجة لذلك، تعرضت مدن مركزية في قلب «إسرائيل» لضربات غير مسبوقة في تاريخها. على سبيل المثال، لأول مرة طالت الصواريخ الإيرانية منطقة تل أبيب الكبرى المكتظة بالسكان، حيث يعيش نحو نصف سكان «إسرائيل». وأسفر توجيه إيران صواريخها للمدن المركزية – بخلاف مواجهات سابقة مع فصائل كحماس وحزب الله ركزت فيها الضربات على مناطق حدودية محدودة السكان – أسفر عن خسائر مادية هائلة في البنية التحتية والمباني تتجاوز كل ما شهدته «إسرائيل» سابقاً. وقدَّرت وزارة المالية «الإسرائيلية» إجمالي الخسائر المالية بـ 10 مليارات شيكل (نحو 3 مليارات دولار) خلال 12 يوماً فقط، عدا كلفة إعادة تسليح الجيش وتعويض ما استُنفد من صواريخ دفاعية، والتي قد ترفع الكلفة الإجمالية إلى 12 مليار دولار وفق بعض التقديرات، ثم رفعت بعض المصادر في أوساط الاحتلال تقديرات الخسائر، وفق ما نشرت وسائل إعلام عبرية في 30 حزيران، إلى 38 مليار دولار.
وكشفت مصادر طبية «إسرائيلية» عن استقبال المستشفيات لآلاف المصابين، حيث نشرت صحيفة «معاريف» نقلاً عن وزارة الصحة في حكومة الاحتلال، الإثنين 30 حزيران، بأنه:«خلال هذه العملية وصل إلى المستشفيات نحو 3345 جريحاً». ونشرت أيضاً أنه «جرى خلال العملية إجلاء 11,070 شخصاً وإيواؤهم في 97 موقع استقبال في أرجاء «إسرائيل».
وكان قد صرح مدير هيئة الضرائب شاي أهارونوفيتش بأن هذه أكبر أضرار شهدتها «إسرائيل» في تاريخها.
إلى جانب الخسائر المادية، برز قصور الاستعداد المدني «الإسرائيلي». فالهجمات الصاروخية المكثفة أدت إلى إغلاق كامل للمجال الجوي «الإسرائيلي»، بما في ذلك مطار بن غوريون الرئيسي، ممّا عزل أكثر من 150 ألف «إسرائيلي» في الخارج. وشلّ هذا حركة الاقتصاد الذي توقف بشكل شبه تام طوال فترة الحرب – أُغلقت المدارس ومعظم الأعمال باستثناء الطوارئ – مفاقماً الضغط على الحكومة لدفع تعويضات بنحو 5 مليارات شيكل للشركات المتضررة.
كما كشفت الحرب نقصاً في الملاجئ والغرف المحصنة للسكان، ممّا عزز شعور المدنيين بعدم الأمان ورفع منسوب الانتقادات لأوجه القصور في حماية الجبهة الداخلية.
لقد اهتزت معنويات الشارع «الإسرائيلي» وهو يرى مدنه مهددة لأول مرة بهذا الحجم، فيما بدت قدرة التحمل المجتمعي محدودة مقارنةً بمجتمعات المنطقة التي اعتادت ويلات الحروب. فإذا قارنّا ذلك مثلاً بغزة – التي تتعرض لدمار واسع لكن سكانها يستمرون بصمود مذهل – نجد فارقاً هائلاً في المعنويات والقدرة على امتصاص الصدمات، ما يُبرز نقطة ضعف «إسرائيلية» جوهرية: عدم تحمل المجتمع لضغوط حرب طويلة وقاسية. وقد أشار محلل عسكري في «هآرتس» إلى هذا الخلل في معادلة الردع «الإسرائيلية»، إذ تمكنت إيران من الاستمرار في قصف «إسرائيل» حتى اللحظة الأخيرة، مما يثير تساؤلات حول فعالية الردع «الإسرائيلي» وقدرة المجتمع على الصمود.
بعبارة أخرى، اضطرت «إسرائيل» لطلب الهدنة بعد أقل من أسبوعين نتيجة الضغوط الهائلة (عسكرياً ونفسياً) التي لم تحتمل استمرارها. وهذا بحد ذاته مؤشر هزيمة وفق منطق الصراعات الممتدة، حيث الطرف الذي يضطر لوقف القتال دون تحقيق أهدافه يكون خاسراً.
ومجمل هذه النقاط تؤكد أن «إسرائيل» لم تحقق أهدافها وبالتالي خسرت المعركة سياسياً واستراتيجياً، فيما حققت إيران غايتها الأساسية بالصمود في وجه العدوان والحفاظ على قدراتها الردعية، بل وإرغام خصومها على إنهاء القتال دون مكاسب. وعليه، فإن القطب المنتصر في هذه الجولة من الحرب هو إيران ومن ورائها شعوب المنطقة التي وقفت في محور مناهض للهيمنة الأمريكية -«الإسرائيلية» والتي أدانت العمليات العسكرية ضدّ إيران.
حول الموقف من إيران و«إسرائيل»
بالمحصلة، برهنت هذه الحرب أن «إسرائيل» ليست عصية على الهزيمة. بل إنها كيان يمكن كسره باستراتيجية صحيحة ترتكز على الصمود والحسابات الدقيقة وضرب نقاط الضعف. وشاهدَ المتابع للأحداث كيف أن كلمة السر لانهيار التركيبة «الإسرائيلية» كانت وضعها تحت ضغط متواصل وتكبيدها خسائر ملموسة؛ فسرعان ما ظهرت تصدعات عميقة في قدرتها على الاحتمال. وهذه الحقيقة تفرض على شعوب المنطقة ترتيب الأولويات والثوابت. وفي هذا السياق، نرى من الضروري أن نثبّت أمرين:
أولاً، «إسرائيل» كانت وستبقى العدو الاستراتيجي والتاريخي للشعوب العربية والإسلامية. فهي مشروع استعماري استيطاني قام على اغتصاب أرض فلسطين وتشريد شعبها، وتوسعه وعدوانه لم يتوقفا يوماً. والتعامل مع هذا العدو يجب أن يكون تعاملاً وجودياً: بمعنى أنه صراع حياة أو موت – إما نحن وإما هو. فأي شكل من التهاون مع هذا الكيان إنما يهدد وجود وحقوق ومستقبل أجيال شعوب المنطقة برمتها. وهذه الحقيقة ينبغي تثبيتها في الوعي العام وفي سياسات دول المنطقة دون مواربة. بهذا المعنى تحديداً، فإن انتصار إيران في صد العدوان «الإسرائيلي» يصبّ في مصلحة جميع شعوب المنطقة التوّاقة للتحرر؛ إذ يُضعف عدوها المشترك ويعزز معسكر الرافضين للهيمنة الصهيونية الأمريكية.
ثانياً، إيران – مهما كان لدى البعض من تحفظات عليها – هي حليف موضوعي لشعوب المنطقة في المعركة الكبرى ما بين الشرق والغرب. نعم، قد توجد خلافات سياسية أو غيرها مع إيران هنا وهناك، وقد لا يتفق الكثيرون مع بعض سياساتها الإقليمية. لكن في العمق، وفي اللوحة الاستراتيجية السياسية الواسعة، تقف إيران اليوم في خندق مناهض للغرب ولـ «إسرائيل»، وهذا يتقاطع جوهرياً مع مصالح السوريين ومصالح شعوب المنطقة المستضعفة كافة. وبالتالي، العداء المجاني لإيران لا يخدم سوى أعداء الشعب السوري وشعوب المنطقة الحقيقيين.
ومن هنا، فإن المنتصر الحقيقي في هذه الحرب ليس إيران منفردة، بل كل الشعوب والقوى الرافضة للهيمنة الغربية في منطقتنا. لقد انتصر نهج المقاومة والصمود على نهج العدوان والغطرسة والاحتلال. ومن دروس هذا الانتصار وجوب ترسيخ وحدة الصف بين قوى الشرق ونبذ أي نعرة مفتعلة تريد تفريقهم.