في سابقة مثيرة استناداً لأبحاث إسرائيلية: محللون في الاستخبارات الأمريكية يستشرفون اقتراب انهيار الصهيونية

هل يمكن أن يكون المراقبون غير الخاضعين للمنطق الغربي السائد هم الوحيدون الذين لمسوا من خلال الهجمة المدمرة التي شنتها إسرائيل على لبنان بالتزامن مع هجومها على غزة الإفلاس الكامل للفكرة التي قامت عليها الدولة العبرية؟
هل يمكن أن يظل المخدوعون مخدوعين وأن تقصر عيونهم عن رؤية العري الفاضح للعقيدة العنصرية الكامنة وراء دولة إسرائيل؟

وهل يعني ذلك أن المتحررين من الأوهام الإسرائيلية هم وحدهم القادرون على رؤية الانهيار القادم للصهيونية مصحوبا بانهيار إسرائيل نفسها كدولة عنصرية لليهود وحدهم?
لقد شكلت العنصرية عصب الحياة بالنسبة لإسرائيل، والصهيونية تقوم على اعتقاد أساسي بوجود حق طبيعي وبشري وقومي لليهود في الأرض التي يطالبون بها وهو اعتقاد يتعارض جوهريا مع احتمال نشوء أية ديمقراطية أو مساواة في الحقوق بين الأمم والأعراف المختلفة وبناء على ذلك فان العربدة المدمرة التي مارستها إسرائيل في كل من لبنان وغزة ليست سوى الخطوة التالية في مسيرة الإيديولوجية الصهيونية. لان هذه الإيديولوجية التي تكرس تميز وتفوق حقوق شعب معين لا يمكن أن تقر بوجود قيود قانونية أو أخلاقية تقيد توسعها كما أنها لا تقر بوجود حدود جغرافية ما دامت الجغرافيا التي تنشدها هي جغرافيا توسعية قادرة على استيعاب تلك الحقوق اللامحدودة التي تدعيها.
ولا تستطيع الصهيونية أن تتقبل أبسط تحد لهيمنتها التامة على ما تعتبره مجالها الخاص وهو لا ينحصر بمساحة إسرائيل داخل حدود 1967 إنما يتعداه إلى المجال المحيط الذي يمتد إلى حدود جغرافية لم يحن بعد وقت مطالبة الصهيونية بها.
إن الهيمنة التامة كما تعرفها إسرائيل، تعني غياب كل تهديد مادي أو ديموغرافي للدولة العبرية التي يسود فيها اليهود ويحتكرون كامل القوة العسكرية ويديرون جميع الموارد الطبيعية ويتفوقون فيها بالعدد ويظل جميع جيرانها ضعفاء ومغلوبين على أمرهم. هذه هي الرسالة التي أرادت إسرائيل إبلاغها من خلال هجومها على لبنان ومفادها أن لا حزب الله ولا من يدعم حزب الله مسموح له بالبقاء ما دام يتحدى السلطة المطلقة لإسرائيل في المنطقة لان إسرائيل لا تستطيع التعايش مع المجابهة، والصهيونية غير قابلة للتعايش مع أية إيديولوجية مغايرة حيث تستشعر الخطر في كل ما هو غير صهيوني.
إن ما حاولته إسرائيل من خلال عنفها الوحشي الأعمى في لبنان هو تدمير الشعب وتحويل البلاد إلى منطقة قتل يموت فيها كل من هو غير يهودي أو يهرب أو يخنع للقوة الإسرائيلية كما حصل في فترة احتلالها للبنان التي امتدت ما بين عام 1978 وعام 2000 وقد كتب الصحافي البريطاني روبرت فيسك عن مشاهداته لما فعلته إسرائيل في لبنان يقول انه يشعر بان إسرائيل قد أصدرت حكمها على بيروت بالموت.. (..) وتقدم القنابل العنقودية التي ألقتها إسرائيل الدليل الأكيد على عزمها على إعادة تشكيل لبنان، أو الجزء الجنوبي منه على وجه التحديد، لتحوله إلى منطقة «مطهرة» من سكانها العرب وغير قادرة على العيش خارج رحمة إسرائيل. إن إلقاء المتفجرات التي تصيب عشوائيا ومن دون تمييز على مناطق مكتظة بالسكان لا يمكن أن يعتبر إجراءً جراحياً تقوم به قوة عسكرية لاستئصال أهداف محددة. فهو لا يمكن أن يكون إلا تطهيراً عرقياً (خاصة وأن 90% من القنابل العنقودية ألقيت من قبل إسرائيل خلال الـ 72 ساعة الأخيرة التي سبقت الهدنة، عندما أصبح واضحا أن القتال في طريقه إلى التوقف. ومن هنا فان إلقاءها كان لغاية مستقبلية هدفها إخلاء المنطقة من السكان).
لقد دأبت إسرائيل منذ قيامها على إنزال مثل هذه الضربات بجيرانها. وقد كان الفلسطينيون اكبر ضحاياها. فقد حسب الصهاينة أنهم قد تخلصوا من اخطر مشاكلهم عندما أرغموا حوالي ثلثي سكان فلسطين على الهرب من ديارهم عام 1948 وظنت أنها تخلصت بذلك من الأغلبية السكانية غير اليهودية التي كانت تشكل عقبة على طريق إقامة الدولة العبرية ذات الأغلبية اليهودية، لكن إسرائيل اكتشفت بعد تسعة عشر عاما عندما بدأت بتوسيع حدودها والاستيلاء على الضفة الغربية وغزة أن الفلسطينيين الذين حسبتهم قد اختفوا ما زالوا هناك وسرعان ما تحولوا إلى خطر يهدد الهيمنة الصهيونية. وخلال السنوات الأربعين التي تلت ذلك ركزت إسرائيل جهودها على إرغام الفلسطينيين على الاختفاء نهائيا. أما أساليبها في التطهير العرقي فمتعددة منها: سرقة الأراضي، وتدمير الموارد الزراعية، والخنق الاقتصادي، وتهديم المنازل، ومصادرة تراخيص الإقامة، والاغتيال، والترحيل، والاعتقال، وتشتيت شمل العوائل، وفرض القيود على حرية الحركة، والتجويع وغيرها. فإسرائيل تريد كامل الأرض الفلسطينية. لكنها لا تستطيع تحقيق غالبية يهودية في الضفة والقطاع. ومن هنا، دأبت على ممارسة سياسة الخنق البطيء.
في مقالة حملت عنوان «الانتفاضة الالكترونية» كتب الإسرائيلي إيلان باب يصف ما تقوم به إسرائيل بأنه «إبادة بشرية بطيئة». فكل عمل للمقاومة يصدر عن الجانب الفلسطيني منذ عام 1948 يشكل حسب قول باب، مبرراً لإجراء تطهيرات عرقية لاحقة تقوم بها إسرائيل في ممارسة باتت معتادة لدرجة أن «قتل الفلسطينيين، وخاصة الأطفال منهم، لا يرد إلا في الصفحات الداخلية من الصحف الإسرائيلية مكتوباً بحروف مجهرية».
ويتنبأ باب بأن مواصلة تقتيل الفلسطينيين بالمعدلات الراهنة ستؤدي إلى هجرة جماعية، أو إلى المزيد من تمسك الفلسطينيين بأرضهم، وهو الاحتمال الأرجح، الذي لا بد أن يقود إلى المزيد من التقتيل على يد الإسرائيليين. وأخيرا، يقول باب إن العالم إذا استمر في صمته إزاء الجولة الحالية التي تمارسها إسرائيل من التطهير العرقي فان هذا التوجه سوف يتصاعد «بوتائر كارثية».
وتسود العنصرية تفكير المحور الإسرائيلي الأمريكي المحافظ وهو التفكير الذي يتحكم في منطقة الشرق الأوسط في الوقت الحالي. فقد وجدت العنصرية المتأصلة في العقيدة الصهيونية حليفاً طبيعياً في الفلسفة العنصرية الإمبريالية التي يعتنقها المحافظون الجدد في إدارة جورج بوش. يقول ميشيل وورشاوسكي، من مركز المعلومات البديلة في القدس، إن الهدف النهائي للحرب الإسرائيلية- الأمريكية العالمية هو «عرقنة» (إضفاء الطابع العرقي) على «جميع النزاعات حيث لا يعود المرء في حالة حرب ضد سياسة أو حكومة أو هدف محدد إنما ضد «تهديد» يتجسد في جماعة عرقية محددة، وهي في حالة إسرائيل كل جماعة غير يهودية.
في أعقاب الفشل الإسرائيلي في لبنان، ظهر بين العرب والمسلمين لأول مرة منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948 شعور بان إسرائيل قد تخطت إمكانياتها وأن قوتها ونفوذها قابلان للتحجيم. فالهجمة المجنونة التي شنتها إسرائيل على لبنان أظهرت عملية «عرقنة» النزاعات، وفضحت الموقف الاستعماري المتعجرف الذي يؤمن بالتفوق الغربي والإسرائيلي ويسعى إلى فرض نوع من «الصدام القدري المحتوم» ما بين الغرب «المتمدن» والشرق «المتخلف» الغاضب. وكما يقول تشارلي رور فإن حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين، اللذين انبثقا كنتيجة لحروب الهيمنة الإسرائيلية السابقة هما الاستجابة السياسية لشعوب أهينت واحتلت وقصفت وقتلت المرة بعد الأخرى على يد الإسرائيليين وبتأييد مباشر أو غير مباشر من الولايات المتحدة.
إن شيئا ما في طريقة عمل إسرائيل وفي طريقة دعم الولايات المتحدة لها يجب أن يتغير. إنها القناعة التي تزداد رسوخا داخل العالم العربي وخارجه والتي باتت تتنبأ بنهاية الصهيونية بالشكل العنصري والانعزالي الذي تقوم به حاليا.
إن إسرائيل لن تهزم عسكريا لكن بالإمكان هزيمتها نفسياً، الأمر الذي يعني وضع حدود لهيمنتها وإيقاف توسعها العدواني على حساب جيرانها وإنهاء السيطرة اليهودية الدينية- العرقية على بقية الشعوب.
ومن يتطلع إلى المستقبل لا بد وأن يلمح اختيارين لا ثالث لهما: فإما أن تعمد إسرائيل وأنصارها في الولايات المتحدة إلى تجاوز الجوانب العنصرية في الصهيونية و(الموافقة على إقامة دولة واحدة في فلسطين يقطنها الفلسطينيون واليهود ويتمتعون فيها بحقوق متساوية)، أو أن العالم سيواجه حريقا لا يستطيع أحد تصور أبعاده.

■ كاثلين كريستسون
محللة سابقة في السي.آي.اية

معلومات إضافية

العدد رقم:
283