بيونغ يانع تحشر واشنطن في خيارين أحلاهما مر..!

ليس جديداً القول إن التجربة النووية التي أجرتها كورية الديمقراطية أوائل الشهر الجاري، أو التجارب الأخرى المحتملة التي تدور الشائعات حولها، تشكل تحدياً لواشنطن، غير أن الإدارة الأمريكية باتت وبوضوح أمام مفترق طرق، تتخبط بين خيارين أحلاهما مر: إما اعتماد الدبلوماسية والمفاوضات بما يعنيه إعطاء بيونغ يانغ المزيد من الوقت لتطوير قدراتها وأبحاثها وتجاربها النووية، وإما توجيه ضربة عسكرية لها تنهي برنامجها النووي على أقل تقدير، بما يعنيه ذلك من تفجير شبه الجزيرة الكورية والدخول في خلافات مع حلفاء واشنطن في منطقة شمال شرق آسيا من خصوم وأصدقاء كورية الديمقراطية على حد سواء على اعتبار أن المغامرة العسكرية الأمريكية المفترضة ستجري على تخومهم إقليمياً.

"هدف" كوري مباغت..
معالم التخبط الأمريكي تجلت في تضارب التصريحات والتسريبات بين خارجية رايس التي ضغطت حتى على الحلفاء متحدثة خلال جولتها الأخيرة في تلك المنطقة عن عدم امتلاك واشنطن أي نية للتصعيد العسكري وإنما الإبقاء على باب المفاوضات مفتوحاً من خلال الاستفادة بشكل منسق وجماعي من زخم قرار مجلس الأمن 1718 القاضي بفرض عقوبات مشددة على بيونغ يانغ، وبين أوساط المصادر المقربة من بنتاغون رامسفيلد التي لوَّحت مجدداً بالقدرة على خوض حربين على جبهتين بشكل متزامن في إشارة إلى الرد العسكري الأمريكي المزمع على كل من كورية الديمقراطية وإيران (متجاهلة بصلف أثمان التورط الأمريكي في كل من العراق وأفغانستان).
وبينما اعتمدت كورية الديمقراطية تكتيك "تمرير الكرات" بينها وبين طهران مشاغلة واشنطن عنها ولو مؤقتاً ومسجلة "الهدف النووي" في "مرمى" العنجهية العدوانية الأمريكية، لجأت هذه الأخيرة المحكومة أزمتها المتفاقمة بالحروب وتوسيعها  إلى إجراء مناورات استفزازية براً وبحراً مع كورية الجنوبية بمشاركة 90 زورقا حربياً و24 حوامة من القوات الأمريكية المتمركزة في كورية الجنوبية إلى جانب جنود مشاة من البحرية الكورية الجنوبية، في حين عمدت القوات الأمريكية في استفزاز آخر إلى مراقبة وتعقب سفينة كورية ديمقراطية أبحرت من أحد مرافئ كورية الديمقراطية للاشتباه بأنها تحمل معدات عسكرية وذلك على الرغم من تحذير بكين لواشنطن من مغبة تشديد الحصار والعقوبات على بيونغ يانغ.
 
فوق الطاولة وتحتها...
ويقود الموقف الصيني إلى البحث في مواقف القوى الإقليمية من مجريات الصراع الكوري الديمقراطي-الأمريكي، حيث يبدو واضحاً في الجوهر رغم كل التصريحات البروتوكولية "فوق الطاولة" بخصوص إدانة التجربة النووية الكورية الديمقراطية أن روسيا والصين لن يمانعا امتلاك بيونغ يانغ سلاح نووي لإدراكهما "تحت الطاولة" أنه لن يستخدم ضدهما بل سيشكل إحراجا وضغطاً جدياً على حليفتهما اللدودة: واشنطن.
فبينما تجري حروب بالوكالة على النفوذ فوق أراض ثالثة بين موسكو وواشنطن في غير مكان وأكثر من ملف بما في ذلك أوكرانيا وجورجيا وأفغانستان والعراق، طالبت بكين برد حازم على بيونغ يانغ‏ لكنها شددت على ضرورة أن تكون العقوبات الدولية معتدلة لا ترقى إلي استخدام القوة‏ بالرغم من عدم ممانعة بكين التطرق إلى بعض عناصر الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة مثل البند‏41‏ الذي ينص فقط علي إجراءات عقابية لا يدخل فيها استعمال القوة العسكرية‏.‏
ويرى بعض المراقبين أنه ليس من مصلحة بكين إضعاف نظام كيم يونغ إيل لما سيتسبب ذلك في عدم استقرار المنطقة، والأهم هو خشية بكين من تولي نظام موال لواشنطن في بيونغ يانغ وما يصحبه من احتمال نقل القواعد العسكرية الأمريكية من كورية الجنوبية إلى تخوم الصين،‏ ولا يقل عن ذلك خوفها من تدفق آلاف اللاجئين إليها تحت وطأة الفقر وعدم الاستقرار‏.‏
ولا يمكن للصين الشريك التجاري الأول لكورية الديمقراطية التضحية بقرابة ملياري دولار سنويا تمثل حجم التبادل التجاري بين البلدين الذي تؤمن بكين من خلاله ‏70%‏ على الأقل من المواد الغذائية والمحروقات لبيونغ يانغ، وهو ما يفسر صعوبة مشاركة الصين في إحكام الحصار الجوي والبحري الذي حرصت واشنطن على تضمينه في قرار مجلس الأمن بهدف معلن يتحدث عن منع كوريا الديمقراطية من تلقي معدات لبرامج التسلح التي تطورها أو بيع أسلحة‏‏. ويسهل توقع مثل هذا الموقف من جانب الصين بعد نجاحها في إسقاط الإشارة إلى حظر شامل لمبيعات السلاح لبيونغ يانغ في نص القرار المذكور ليقتصر الحظر على معدات بعينها تشمل الصواريخ والدبابات والبوارج الحربية والمقاتلات.‏
 
بين مطرقة التحرر الجنوبي وسندان الحليف المتسلط
على المقلب الآخر للصورة يبرز نظام كورية الجنوبية الموالي لواشنطن بوصفه أكبر المتضررين من التجربة النووية في الشطر الشمالي، ومن التلويح الأمريكي بالرد العسكري، على حد سواء بسبب التداخلات الاجتماعية والاقتصادية بين شطري شبه الجزيرة الكورية، في حين شكل إعلان كوريا الديمقراطية النووي المفاجئ أول اختبار دولي بالنسبة لرئيس وزراء اليابان الجديد شينزو آبي، السياسي المتعصب قومياً الذي تعهد بجعل الأمن على رأس سلم أولوياته، محذراً بيونغ يانغ بعبارات قلما تُستخدم في قاموس الدبلوماسية اليابانية من شاكلة "أن اليابان والعالم لن يقبلا قطعاً باختبار نووي" و"المجتمع الدولي سيرد بحزم". وتلا ذلك تقديم واشنطن بلسان وزيرة خارجيتها تطمينات بالالتزامات الدفاعية الأمريكية تجاه كل من سيؤول وطوكيو.
 
الإبقاء على تبعية الحلفاء
وبينما سارع بوش إلى تحذير كورية الديمقراطية من مغبة تصدير الأسلحة أو التكنولوجيا النووية للدول والمنظمات المارقة حسب التوصيف الأمريكي، بدأت التقارير تتحدث عن احتمال قيام سباق للتسلح في المنطقة بعد التجربة النووية الكورية الديمقراطية من جانب طوكيو وسيؤول. وذكرت بعض التقارير أن بوسع اليابان إنتاج قنبلة نووية في غضون ستة اشهر وأن سيؤول قد تعاود اختباراتها النووية وهي التي أوقفتها قبل نحو عامين بعد إجراء تجارب ناجحة لتخصيب كميات صغيرة من اليورانيوم في أواخر السبعينات والثمانينات واستخرجت كميات صغيرة من البلوتونيوم في أوائل الثمانينات. غير أن كوندوليزا رايس سارعت إلى احتواء هذه التقارير مشيرة إلى أن لدى إدارتها الكثير من الوسائل للحيلولة دون حدوث سباق للتسلح وهو ما يعني بوضوح أن واشنطن تريد الإبقاء على حالة تبعية سيؤول وطوكيو لها.
 
التجربة الكورية: حقائق ودوافع
يؤكد بعض المراقبين حتى في الداخل الأمريكي أنه يمكن اعتبار التجربة النووية الكورية الديمقراطية فشلاً ذريعاً لسياسة إدارة بوش بخصوص منع الانتشار النووي. فمنذ أن أصبح بوش رئيساً للولايات المتحدة، استأنفت كورية الديمقراطية مفاعلها النووي وزادت مخزونها من البلوتونيوم. ونتيجة لذلك، يمكن أن يكون بحوزتها اليوم ما يكفي من هذه المادة لصنع 10 أو 11 سلاحاً نووياً، مقارنة مع سلاح أو اثنين عندما وصل بوش إلى السلطة.
وعندما أصبح بوش رئيساً كان مفاعل بيونغ يانغ مجمداً بمقتضى اتفاق 1994 مع الولايات المتحدة. وكان مسؤولو إدارة كلينتون يعتقدون أنهم جد قريبين من اتفاق يحد من صواريخ كورية الديمقراطية، غير أن المحافظين في إدارة بوش لطالما كانوا متشككين في الاتفاق المذكور لأنه دعا إلى إنشاء مفاعلين نوويين للماء الخفيف (يساهم في تمويلهما اليابانيون والكوريون الجنوبيون). وعندما قال وزير الخارجية آنذاك كولن باول علناً في أوائل عام 2001 إنه يفضل مواصلة مقاربة كلينتون، لم يسلم من انتقادات بوش.
بعد ذلك وصف بوش كورية الديمقراطية بأنها جزء من "محور الشر" الذي ضم إيران والعراق إبان حكم صدام وهو ما زاد من غضب بيونغ يانغ الذي فاقمه كذلك رفض بنوك عديدة عبر العالم التعامل مع شركات كورية الديمقراطية. وتلا ذلك فرض إدارة بوش عقوباتها الاقتصادية والتجارية على بيونغ يانغ التي طردت مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية وعلقت مشاركتها فيما يعرف بالمحادثات السداسية معلنة التمسك بحقها في استخدام الطاقة النووية وبرفع العقوبات والدخول في مفاوضات مباشرة مع واشنطن.
 
التعتيم الكوري والغباء الأمريكي...
إن الحقيقة البديهية الخاصة بعدم توضيح بيونغ يانغ لتاريخ اعتزامها القيام باختبار سلاحها النووي، دفعت بعض الخبراء داخل إدارة بوش وخارجها إلى اعتبار أن الإعلان قد يشكل حيلة تفاوضية، الهدف منها حمل البيت الأبيض على رفع العقوبات الاقتصادية وعقد محادثات مباشرة معها؛ حيث أعلن مسؤولو الاستخبارات الأمريكية أنهم لم يروا ما يؤشر على قرب إجراء اختبار. ولكنهم لفتوا في الوقت نفسه إلى أنه قبل التجربة بأسبوعين، أعلن المسؤولون الأمريكيون الذين اطلعوا على التقارير الاستخباراتية الأخيرة أن أقمار التجسس الاصطناعية التقطت دليلاً على وجود نشاط غير معروف في المكان الذي يُعتقد أنه الموقع الرئيسي لإجراء الاختبارات في كورية الديمقراطية. غير أنه لم يكن واضحاً بالنسبة لهم ما إن كان ذاك جزءاً من مخططات اختبار، أو ربما مجرد تمويه يرتبط بزيارة الرئيس الكوري الجنوبي روه مو هيون إلى واشنطن الشهر المنصرم.
 
الصراع مفتوح..
لقد أكدت كورية الديمقراطية قبل عام تقريباً أنها تمتلك رادعاً نووياً، غير أن غياب اختبار خلق نوعاً من الغموض حول حقيقة ذلك. واليوم أثبتت بيونغ يانغ امتلاكها السلاح النووي، ولكن السؤال الذي تبقي إجابته على الصراع مفتوحاً هو: هل ستكف واشنطن عن سياساتها الخرقاء انطلاقاً من ادراكها أن العزل والضغط والعقوبات والإقصاء هي أساليب لا تفضي إلا إلى نتائج مغايرة مع من يمتلك إرادة المواجهة والمقاومة ويعمل على ترجمة ذلك على أرض الواقع؟  

معلومات إضافية

العدد رقم:
284