إبراهيم البدراوي إبراهيم البدراوي

لنشغل موقعنا في عالم يتشكل..

لا أريد أن أسبق الأحداث بالنسبة لنتائج زيارة أوباما لمصر، والصخب الدائر في أوساط الليبراليين الجدد حول الزيارة، وتصويرهم إياها كحدث هائل، بل حاسم بالنسبة لأوضاع المنطقة ومستقبلها. فهم يرون في الزيارة قشة يحاولون التعلق بها في ظروف السقوط المزري لمشروعهم عالمياً ومحلياً، ولما تبنوه ورددوه لسنوات.

في عام 1974، حينما تم الاعلان عن زيارة نيكسون قبل طرده من البيت الأبيض بسبب فضيحة «ووتر جيت»، ولأيام عديدة قبل الزيارة، راحت أبواق سلطة السادات تردد بلا انقطاع، أن السفن الأمريكية المحملة بكميات هائلة مما يحتاجه المصريون في طريقها الى ميناء الاسكندرية. وتمت الزيارة، ولم ترسُ السفن الأمريكية الموعودة، وإنما أبحر (بعد وقت قصير) قارب «قرصنة» من البيت الأبيض في واشنطن يحمل على متنه نيكسون مجللاً بالعار.
بعدها بعامين تقريباً انفجرت انتفاضة يناير 1977، وأجبر السادات، بعد أن أحس بأن نظامه قد بدأ في التهاوي، على إلغاء قراراته التي سببت الانتفاضة.
لم يعد من الممكن تمرير خداع  مماثل، وليس في جعبة السلطة حيل وأكاذيب تنطلي على أحد.
في خضم أزمة السلطة الحاكمة يجري تخبطها بشدة.  لكن هذا التخبط له نتائجه الايجابية التي تدفع لمزيد من الفرز السياسي، مثلما أحدثه حفل «دار الأوبرا المصرية» التي استضافت الموسيقي الصهيوني. وما أحدثته القضية المزعومة عن خلية حزب الله في مصر!! إذ انكشف وافتضح أمر كل مدعي الوطنية والانتماء للخط القومي من السياسيين والمثقفين، الذين تأكد أنهم ليسوا أكثر من غلمان وخدم للطبقة الحاكمة وسلطتها السياسية وسادتهم الامبرياليين والصهاينة. وبالتالي سقط دورهم في تجميل وجه السلطة القبيح.
في السياق نفسه، إذ يعلو التهليل والطبل والزمر لزيارة أوباما، فإن ذلك سيؤدي إلى إنتاج المناخ المناسب لتعميق الوعي، وتوضيح الارتباط الموضوعي بين الطبقي والوطني والقومي والأممي، شريطة بذل جهود جادة ومضنية لتحقيق ذلك. ليس فقط من أجل إلحاق الهزيمة بالطبقة الحاكمة، وإنما أيضاً إتمام عملية اكتساح للنهج الاصلاحي وأضاليله المتهالكة في سعيه لتزيين وجه البرجوازية القبيح لابقائها على قيد الحياة بغية أن تسمح لهؤلاء الإصلاحيين المتهافتين بجزء يسير من الكعكة.

لا يمكن عزل ما يجري في مصر من تفاعلات عما يجري في العالم. فإذا كانت التطورات العالمية الجارية تشير دون لبس إلى أن عالماً جديداً قد بدأ بالتشكل، وأن واقعاً استراتيجياً جديداً يشق طريقه برصانة وثبات على أشلاء النظام الرأسمالي العالمي الذي تطحنه أزمة لا حل لها سوى بالحرب، التي تمت تجربتها كأسلوب أتى بنتائج معاكسة في حربين عالميتين، في ضوء اتساع رقعة خندق التحرر الوطني والتقدم والاشتراكية بانتقال دول وحركات شعبية واسعة رافضة للرأسمالية إليه، فإن ذلك كله أنتج وحدد بشكل شديد الوضوح ماهية القوى الصاعدة، وماهية القوى الآفلة.
إن قوى التحرر الوطني (بوجهه الآخر الاجتماعي) وقوى التقدم والاشتراكية، كدول وشعوب تشق طريقها بثبات، وتقف دون أي خوف أو تردد أو تراجع في مواقع الهجوم  بوجه الوحش الامبريالي، وتلحق به الهزائم، وتجرده من أية هيبة، وتمرغ أنفه في الوحل، إذ تعطي كوريا الديمقراطية وكوبا وفنزويلا وبوليفيا وغيرها وغيرها، كما تعطي– وفي منطقتنا رغم ظروفها الكارثية– بلدان مثل سورية وإيران والسودان، وحركات مقاومة باسلة في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان، نماذج مشرفة  للإمكانيات والطاقات النضالية المختزنة لدينا.
والحال كذلك، فإن ما ينطبق على العالم ينطبق على مصر، إذ بدأت مقدمات اصطفافات سياسية– اجتماعية جديدة. وإذا كان الاصطفاف في خندق العمالة والتبعية قد تبلور، وإن كان ضيقاً وهشاً ومفضوحاً، غير أن مصر تمتلك طاقات هائلة يمكن عبر تجميعها وحشدها تغيير المعادلة بالكامل محلياً وإقليمياً.
وإذا كانت اصطفافات قوى التغيير لا تزال في بدايتها، و«مبرقشة» إلى حد كبير، فإنها في مجرى نموها وتطورها، وفي خضم الحشد الواسع والعمل الدؤوب، سوف تتمكن من صياغة  مواقفها بشكل أفضل.
لقد انتهت المرحلة التي كان يجري فيها الفصل بين الطبقي (الاجتماعي) والوطني والقومي، وأصبحت جميعها في سبيكة واحدة، مندمجة في حركة عالمية تصوغ عالماً جديداً نوعياً.
إن القوى الوطنية الجذرية في مصر– في إطار الترابط بين الطبقي والوطني والقومي والعالمي– ليست بالضيق والضعف البادي من النظرة العابرة. ولكنها واسعة وقوية إذا ما تم لم شملها بطريقة مبدعة وبجرأة وسعة أفق. إذ أن مكوناتها الاجتماعية الصلبة، والمشكلة من الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء والطلاب والمثقفين وكل القوى الوطنية الجذرية الحريصة على سلامة وتطور وتقدم الوطن، وهم الأغلبية الساحقة والكاسحة، هم في الواقع الطرف الفاعل في معادلة الصراع ضد العدو الداخلي والخارجي على السواء. كما أنهم يمتلكون القدرة على تحقيق الانتصار.
لقد انتهت إلى غير رجعة أية هواجس عن إمكانية المناورة على قوى خارجية. فالهزائم التكتيكية تنهمر على العدو الصهيو– امبريالي كمقدمات طبيعية لهزيمته استراتيجياً في المدى القريب.
ينبغي على القوى الجذرية أن تستفيد من دروس الماضي، وأن تستوعب قانونيات التطور التاريخي المصري الغني (على الأقل بطول العصر الحديث). والأهم هو التركيز على المستقبل، وضرورة وجود مصر في معادلة العالم الجديد الذي يتشكل، عبر الانخراط بكل الطاقة في الحاضر لتهيئته للدخول إلى المستقبل الذي يولد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
407