حوار الرصاص في «قلقيلية»!
الجريمة الجديدة التي شهدتها مدينة «قلقيلية» في الضفة الفلسطينية المحتلة مؤخراً، لم تكن حدثاً مفاجئاً. فقد جاءت كتعبير مباشر عن المستوى الذي وصل إليه التنسيق الأمني بين السلطة وقوات الاحتلال. فمنذ أشهر عديدة، مع ازدياد حملات المطاردة والاعتقال للمقاتلين من كتائب القسام، وسرايا القدس، وأبو علي مصطفى،
وشهداء الأقصى، كانت كل الدلائل تشير إلى قرب حدوث المواجهة بين المقاوم، الملاحق/المطارد، وقوى «الأمن» التي تتعقبه في أية لحظة. ولهذا فإن سقوط ستة مواطنين فلسطينيين في المعركة التي شهدتها عمارة «الباشا» في حي «كفار سابا» السكني داخل مدينة قلقيلية، يؤكد على أن القوتين التي دارت بينهما المواجهات، كانتا على طرفي نقيض، بالدوافع والأهداف التي أدت بهم للموت. رجال أمن السلطة نفذوا الأوامر، بعد أن قامت أجهزة غسيل الدماغ الدايتونية- نسبة إلى الجنرال «كيث دايتون»- بإزالة الذاكرة والوعي الوطني من رؤوس عناصرها، وزرع مفاهيم وقناعات وتوجهات جديدة، هي النقيض المباشر للانتماء لفلسطين، الشعب والقضية، بما يعنيه ذلك من رفض للاحتلال ومقاومته. قادة المقاومة من كتائب القسام، المطاردون منذ عدة سنوات، والمستهدفون من قوات جيش العدو الصهيوني، وأجهزة مخابراته، وعملائه المحليين، رفضوا الاستسلام للقوات «الفلسطينية شكلاً» والمنفذة لمهمات قوات العدو ووحدات موته المختارة التي تطاردهم منذ أكثر من خمس سنوات. رفض القائدان «السّمان» و«ياسين» تسليم سلاحهما، والخروج رافعي الراية البيضاء، وبالملابس الداخلية. دافع المقاتلان عن شرف الانتماء للمقاومة، وعن قدسية السلاح المقاتل، حتى سقطا شهيدين، مع صاحب البناية التي كانا بداخلها.
كشفت المهمة القديمة/ الجديدة لقوات أمن السلطة، النقاب مجدداً عن الدور/ الوظيفة التي تضطلع بها تلك الآلاف التي يشرف على إعادة تكوين قناعاتها، الجنرال الأمريكي دايتون وطاقمه المتخصص. ولهذا فإن الحديث عن «الفلسطيني الجديد» الذي يتم تصنيعه داخل معسكرات التأهيل التي أنشأتها الاستخبارات العسكرية الأمريكية في الضفة المحتلة، لم يكن نوعاً من التضخيم الإعلامي، المعادي لبيئة «السلام»! بل كان توصيفاً موضوعياً للبنية القمعية التي يتم إعدادها، والتي يحرص على توفيرها الحاكم العسكري الأمريكي للضفة، عبر عمليات غسل الأدمغة، واستغلال ظروف مئات الآلاف من العاطلين عن العمل، بدفعهم للالتحاق بأجهزة أمن السلطة، والعمل على فرز الآلاف منهم، ممن لايوجد في سيرتهم الحياتية أية ارتباطات بقوى المقاومة الوطنية، للعمل في الفرق الأمنية التي يقوم على تشكيلها. وكان الصحفي الأمريكي توماس فريدمان الذي زار الضفة قبل أسابيع عدة، قد أشار في مقال له نشر مؤخراً، حول مواصفات «الكائن الجديد»، الذي قابله برفقة دايتون بأحد مركز إعادة التأهيل. لقد تحدثت بعض تلك الكائنات أمام الجنرال وضيفه عن (أهمية تحقيق السلام مع الشريك «الإسرائيلي»، والقضاء على الإرهاب «المقاومة» التي تجلب الدمار والخراب للمنطقة).
هذه المواصفات تحدث بها العديد من مسؤولي السلطة قبل وبعد جريمة قلقيلية. «حسين الشيخ» أحد قادة فتح/ السلطة، ومسؤول التنسيق والارتباط مع الجانب الصهيوني، قال بالفم الملآن (إن خلية القسام في قلقيلية تمت تصفيتها لأنها كانت تهدد جميع الاتفاقيات والتفاهمات التي وصلنا إليها مع الطرف «الإسرائيلي»، كما أنها كانت تهدد الأمن في كل منطقة الشمال. مضيفاً (تمت ملاحقة مجموعة «السمان» التابعة لكتائب القسام بناء على معلومات استخباراتية محددة أدت إلى تصفية المجموعة)، مشدداً في رده على سؤال لبرنامج الظهيرة في الإذاعة الصهيونية العامة حول وجود مجموعات أخرى بالقول (ما يهمنا الآن، أن من يهدد الأمن ومن يخرق ويخرج عن القانون سيتم ملاحقته إما بالاعتقال أو التصفية وهم مسؤولون عما يجري بحقهم... وقد تم القضاء على عناصر المجموعة التخريبية). كما نقلت إذاعة الجيش الصهيوني عن قيادات في السلطة (إن هذه الحادثة تأتي لتؤكد أن السلطة تقوم بالمهام والالتزامات الأمنية المطلوبة منها وأنه لم تبقَ حجة لدى «إسرائيل»). كما أكدت الإذاعة أيضاً (أن أجهزة السلطة الفلسطينية اعتمدت على معلومات استخباراتية صهيونية، أدت لتحديد أماكن المطلوبين واشتبكت معهم).
لقد رأى بعض المحللين بأن تنفيذ المهمة/ الجريمة في قلقيلية، يرتبط بالنتائج المباشرة لزيارة عباس لواشنطن ولقائه بالرئيس الأمريكي. لكن واقع الحال اليومي، على مدى السنوات العجاف التي أعقبت اتفاق إعلان المبادئ في أوسلو، وما أعقبه من اتفاقيات وملاحق ولقاءات بين السلطة والعدو، يؤكد أن التنسيق الأمني الكارثي، الذي تكتوي بناره قوى الشعب الوطنية، ماهو سوى أحد الوجوه الأكثر قبحاً، للتنسيق السياسي والاقتصادي و«ورش السلام»! بين الطرفين. وقد عهد بالإشراف على تفاصيل التنسيق الأمني لدايتون. فالجنرال الأمريكي الذي بدأ مهمته العملية داخل الضفة منذ آذار 2005،- التي تم تمديدها مؤخراً لعامين قادمين- بالإشراف على تدريب قوات الحماية الخاصة لـ«الرئيس»، لينتقل بعدها لتشكيل الوحدات المنتخبة من قوى الأمن، المكلفة بتثبيت «الأمن وتصفية عصابات الإجرام الإرهابية»!، يتباهى بقدرة عناصره- يخاطبهم أحياناً...أبنائي!- على فرض القانون! ولسنا بحاجة للتساؤل: أية قوانين؟ وأمن مَن؟ وأية عصابات إرهابية؟ فممارسات هذه القوى في شوارع نابلس وبيت لحم والخليل وجنين، تفضح وظيفتها.
لقد أعادت جريمة «قلقيلية» تسليط الأضواء مجدداً على دور «مؤسسات» السلطة وتوابعها، في تحقيق الالتزامات التي فرضتها الاتفاقيات الموقعة مع الجانب الصهيوني. وهذا يطرح على الجميع الإجابة على السؤال المركزي: هل من رهان على دور هذه المؤسسات وحواشيها، داخل المشروع الوطني التحرري لشعبنا؟
إن جلسات الحوار التي شهدتها القاهرة بين «فتح وحماس» خلال الأسابيع الماضية، لم تكن سوى لقاءات «الاستحقاق الإقليمي»، التي لاتعدو كونها، مناكفات مباشرة. فما أظهره الحوار الذي شهدته غرف عمارة «الباشا»، يؤكد على طبيعة اللغة التي يتخاطب بها الطرفان.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 407