شفيق الحوت... فارس ترجل

هوى نجم ساطع من سماء الوطن. فقد غيب الموت قبل أيام قليلة «أبو هادر»، أحد الرجال/ القادة الشرفاء في الحركة الوطنية المعاصرة. في سيرته الذاتية التي تضمنها كتابه الأخير «بين الوطن والمنفى: من يافا بدأ المشوار» الصادر قبل عامين، يأخذنا «الأستاذ شفيق» في رحلة الحياة: من البدايات إلى الحلم القابل للتحقق. لم ينس ابن مدينة يافا، عروس الساحل العربي الفلسطيني، هدير بحرها، وعبير زهور حمضياتها، ولم تحمل سنوات الدم والجمر والرصاص، التي عاشها منذ البدايات مابين يافا التي اقتلع منها، واللجوء لبيروت- التي تمتد جذور عائلته في ترابها- سوى عبق تراب الوطن الذي ارتوى بدماء الشهداء، الذين كان دم شقيقه «جمال» الذي سقط عام 1948 وهو يقاوم تهويد فلسطين، سوى البوصلة التي حددت الهدف.

نمت بذور الاهتمام السياسي لدى الفتى اليافع في تربة المواجهة المباشرة مع المشروع الاستعماري الصهيوني/ البريطاني، وساهم مع زملائه في «كلية العامرية» الثانوية في تأطير شكل النضال الطلابي في تأسيس «اتحاد الطلاب» الذي طوّر تجربته، وصاغ أهدافه، وحدد مهماته، من خلال الأفكار الوطنية التحررية.
في أواخر نيسان/ ابريل 1948 لجأت العائلة لبيروت، ليحتضنها الأصل اللبناني للعائلة. في الجامعة الأمريكية التي درس فيها، والتي كانت بؤرة للنشاط التحرري، اليساري والقومي، تجذرت علاقته بالفكر الشيوعي، وتتالت نتيجة ذلك متاعب الشاب مع مؤسسات الدولة الأمنية، وإدارة الجامعة. فقد اعتقل في سنة 1950 بسبب قربه من الشيوعيين، وأطلق سراحه بعد أسبوع. لكن إدارة الجامعة اتخذت قراراً بحرمانه من الدراسة لمدة عام. ومع صعود المد القومي العربي بزعامة جمال عبد الناصر، بما تركته نتائج تأميم قناة السويس، والعدوان الامبريالي الوحشي على مصر عام 1956، اقترب فقيدنا من الفكر القومي، بمضامينه التقدمية. وفي جدلية الترابط بين الفكر القومي واليساري، المتجذر في قضايا التحرر الوطني والاجتماعي، بقيت فلسطين في مركز الاهتمام والعمل داخل قلب وعقل الفقيد، الذي عبّر عن هذا الموقف في كل مجالات عمله، سواء في التدريس أو الصحافة، التي شكلت له منبراً سياسياً بامتياز. ومن أجل تنظيم قوى الشعب وحث الخطى باتجاه تحرير الوطن المحتل، عمل في عام 1963 على تأسيس «جبهة التحرير الفلسطينية» مع كوكبة من المثقفين والمهتمين الوطنيين، وأصدروا نشرة «طريق العودة» التي اقترن اسم الجبهة بها.
كان فقيدنا أحد أبرز الأعضاء في المؤتمرالوطني الذي عقد في 28 أيار 1964 في مدينة القدس، الذي انبثقت عنه منظمة التحرير الفلسطينية، التي أصبح ممثلاً لها في لبنان. بعد هزيمة حزيران 1967 تداعت قيادة «ج ت ف» لاجتماع استثنائي، اتخذت خلالها قرارها بحل التنظيم، ووقف اصدار «طريق العودة». وبهذا القرار تفرغ فقيدنا تماماً للنضال في صفوف منظمة التحرير. وقد مارس دوراً مركزياً في مؤسسات المنظمة. فما بين عامي 1966ـ1968 و1991ـ1993 كان عضواً في اللجنة التنفيذية للمنظمة، التي استقال من عضويتها، عندما جرى تبادل رسائل الاعتراف بين الكيان الصهيوني وقيادة المنظمة في 9/9/1993 وقد أعلن استقالته في 10/9/1993 أي قبيل توقيع اتفاق أوسلو بثلاثة أيام، وخاض حينها داخل جلسة المجلس المركزي للمنظمة حواراً صاخباً مع الراحل ياسر عرفات حول بنود ومضامين الاتفاق المشؤوم، الذي وصفه أبو عمار بأنه (ورد أحمر الخدين)، فرد عليه أبو هادر بالقول (أخ أبو عمار، بحثت عن هذا الورد الأحمر الخدين، فلم أر إلاّ سعداناً أحمر الردفين).
بعد استقالته من مؤسسات المنظمة، أعطى الفقيد كل جهده للعمل على تطوير أشكال الحراك الشعبي الفلسطيني، بهدف تنظيم النضال الجماهيري من أجل العودة للوطن المحرر السيد. ولهذا كان في مقدمة المؤسسين لهذا العمل الذي تشكلت مؤتمراته الفاعلة في كل مناطق اللجوء والاغتراب. وكانت كلماته في هذا الجانب، تختصر حلمه (أنا لست عائداً فحسب، بل فلسطين عائدة إليّ أيضاً، إنها مسألة وقت مهما يَطلْ الزمن). في خضم عمله من أجل مأسسة هذا الجهد الشعبي وتفعيله، ظل فقيدنا يناضل من أجل إعادة بناء منظمة التحريرعلى أساس ميثاقها القومي/ الوطني، لتكون حاضنة للقوى الوطنية، والإطار الفاعل لكفاحها الوطني.
مابين منتصف كانون الثاني/ يناير 1932 وأوائل آب/ أغسطس 2009، تجربة حياة زاخرة، مفعمة بالعمل الدؤوب من أجل تحرير فلسطين ونهضة الأمة، ومسيرة كفاح لم توقفها المحاولات العديدة لاغتياله، والتي تعرض في واحدة منها 17/2/1967 للإصابة في ساقه.
غيب الموت القائد الكبير في وقت عصيب تعيشه قضيتنا وأمتنا. ترجل الفارس العملاق في زمن تتكاثر فيه جماعات الأقزام كالطحالب، وتتناسل فيه تلك الكتل المترهلة، اللزجة، من الكائنات الحية، التي رسمها شهيدنا المبدع «ناجي العلي». رحل الرجل الشريف في زمن تتصدر المشهد فيه- مؤقتاً- مافيات السماسرة والفساد والعمالة والأمية.
في مسيرة كفاحه الطويلة، صاغ الفقيد عصارة فكره في مجموعة كبيرة من المقالات التي حملت هموم وطموحات «ابن البلد»، وأثرى المكتبة العربية بالكتب. فما بين كتابه اليسار والقومية العربية (1959)، وسيرته الذاتية في «بين الوطن والمنفى...» (الصادر عام 2007) نتعرف على الفكر الوطني الملتزم بقضايا الاشتراكية والتحرر والوحدة، التي يقول عنها (ليست الإيديولوجيات إلاّ سبيلاً لاسترداد هذا الوطن).
خسرنا رجلاً استثنائياً، بقي صامداً في وجه كل رياح التنازلات الصفراء، لم يتزحزح عن ثوابته/ ثوابتنا الوطنية والقومية. رحل-الكاتب، المقاتل، القائد- وهو يحلم بتحرير فلسطين التاريخية، رافضاً كل أشكال العهر الرائجة.
 
غاب جسد شفيق الحوت، لكن روحه وفكره باقية فينا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
415