وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد:  رجل المال والأعمال في ثياب السياسية!!

٭ في مكتبه في البنتاغون، كان يجري تحضير الحجج حول أسلحة الدمار الشامل المزعومة... والتي أدّت إلى الحرب في العراق... كان لدى رامسفيلد شعاره المعروف: «الصدمة والرعب». خلال عشرين عاماً، كرجل أعمال أطلق دواء الأسبارتام، شعاره: «حلو مخفّض (الحريرات)». وهو فعلاً محلّى صناعي يتسبب في الصداع، وقبله أنبوب نفط للدكتاتور، وتلفزيون لا يعمل، ومضاد للجدري يدمّر الكليتين..

 نعرف أن وزير الدفاع سوف يقدّم حساباتٍ عن التعذيب في العراق. لكن لفهم الشخص نفسه - والانحرافات الحالية في البنتاغون-، ينبغي الإيغال في أرشيف البورصة الأمريكية. وهناك نكتشف مساراً مدهشاً لرجل أعمال، مكوّنٍ من الصلات الخطيرة بين العام والخاص. في جلسة الاستجواب فارقت دونالد رامسفيلد ابتسامته الناعمة.، اضطرّ إلى الإقرار بـ «مسؤوليته» عن الإهانات وأشكال التعذيب التي أخضع لها المعتقلون العراقيون في سجن أبو غريب. لكن أوّل الصقور الذين يهيمنون على البنتاغون لم يستقل.

من هو رامسفيلد

1962-1977: بدايات «صبيّ نيكسون»

ولد دونالد رامسفيلد، الملقّب بـ «رومي» في شيكاغو عام 1932، تخرج من جامعة برنستون البارزة، وبدأ حياته مستشاراً لمصرف AG Becker للاستثمار. لينطلق في مجال السياسة في العام 1962 حين تقدّم للانتخابات التشريعية في القطاع الثالث عشر لإيلينوا. كان بائعاً سابقاً لعجينة الورق ثم أصبح فيما بعد أحد العاملين مع رتشارد نكسون وأحد أهمّ المدانين في قضيّة ووترغيت. نجح دونالد في الانتخابات، فأصبح نائباً ولمّا يتجاوز عمره 29 عاماً، وواصل صعوده السياسي. في عام 1969، عيّنه رتشارد نيكسون، على رأس مكتب الفرصة الاقتصادية، وهي وكالةٌ لمكافحة الفقر أنشأتها الحكومة الديموقراطية السابقة لنيكسون. وإذا صدّقنا شهادة أحد المدراء السابقين للمكتب، فإنّ دور رامسفيلد فيه كان تفريغ الوكالة الفدرالية (التي أغلقها نيكسون في العام 1973) من «اليساريين» أو الذين ينظر إليهم على أنّهم كذلك.

1983: مسافرٌ تجاريّ في بغداد

 في حين كان لا يزال رئيس مجلس إدارة سيرل، نفّذ دونالد رامسفيلد «مهمّةً» دبلوماسية لصالح جورج شولتز،. في 1983، كان المبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى بغداد، وقابل صدّام حسين. وحين سألته قناة CNN في أيلول 2002 عن سبب تلك الزيارة، أجاب رامسفيلد إنّ الأمر يتعلّق بعدّة أمور، ومنها تحذير صدّام من استخدام الأسلحة الكيميائية في الحرب ضدّ إيران. لكن التقرير الرسمي لزيارته مع الدكتاتور لا يتضمّن أيّة إشارة إلى مثل ذلك التحذير، بل ورد فيه مشروع خطّ نفط كان دونالد رامسفيلد يدافع عنه لدى الدكتاتور.

 في ذلك الحين، كان أنبوب النفط ذاك مشروعاً لشركة بكتيل، شركة الأعمال الإنشائية الأمريكية العملاقة، التي كان جورج شولتز، وزير الخارجية الذي أرسل رامسفيلد إلى بغداد، رئيس مجلس إدارتها حتى دخوله إلى إدارة ريغان، وأصبح من جديد أحد مدرائها الرئيسيين في العام 1989. هناك خطوةٌ فقط كي يفكّر المرء أنّ دونالد رامسفيلد قد مثّل مصالح بكتيل لدى صدّام حسين. على أيّة حال، لم يكن ينظر في تلك الفترة إلى ذلك الزبون المرتدي للزيّ العسكريّ على أنّه إرهابيّ. إنّ تواطؤه مع جورج شولتز لا يزال قائماً حتى الآن بعد أن تأكّد في أعمال تجارية مختلفة. إذ بعد أن أصبح دونالد رامسفيلد وزيراً للدفاع في العام 2001، أدخله إلى لجنة مجلس البنتاغون، رغم إنّ القواعد تستبعد مشاركة أشخاصٍ يمثّلون تضارب مصالحٍ محتمل. والحال أنّ جورج شولتز، البالغ من العمر 84 عاماً، لا يزال مديراً لبكتيل، أحد أبرز المستفيدين من مساعدات إعمار العراق. وقد حصلت تلك الشركة على عقود بقيمة 1.8 مليار دولار، أي ما يعادل 15% من رقم أعمالها في العام 2002، وذلك دون المرور بالإجراء المعتاد للمنافسة. 

1990-1993: دولارات العصر الرقمي

 في كانون الثاني 1989، دخل جورج بوش الأب إلى البيت الأبيض. لكنّه تجنّب أن يلجأ إلى رامسفيلد، الذي كان على الدوام في وضع غريمٍ له. غير مهم... فسوف يتابع دونالد حياته كرجل أعمال. في تشرين الأول 1990، أصبح رئيس مجلس إدارة شركة جنرال إنسترومنتس التي تصنّع كابلات الاتصالات الهاتفية. وهو يدين بهذا المنصب لمموّلٍ من نيويورك هو تيودور ج. فورستمان، وهو الراعي المخلص للحملات الانتخابية لعائلة بوش، وكان قد اشترى لتوّه الشركة التي كانت تمرّ في ذلك الحين بوضعٍ صعب، إذ كانت قد استثمرت أموالاً طائلة في تقنيات التلفزيون الرقمي. والحال إنّ لجنة الاتصالات الفدرالية، وهي السلطة الأمريكية المكلّفة بتنظيم الاتصالات، لم تستبق في مسابقةٍ تهدف إلى تحديد معايير تلفزيون المستقبل سوى مرشّحين قاموا بتطوير النظام التماثلي. وبكلماتٍ أخرى، فإنّ شركة جنرال إنسترومنتس كادت تجد نفسها مستبعدةً من السوق لصالح منافسيها، وخاصةً المجموعات اليابانية. ما علاقة دونالد رامسفيلد، الذي يفتقد لأيّة خبرة في التقنيات الرفيعة، بهذه القضيّة السيئة؟ إنّ تتمّة القصة تلقي الضوء على دوره. 

 بعد شهرٍ من وصول «دون» على رأس شركة جنرال إنسترومنتس، تحوّلت الشركات الأمريكية الثلاثة المتنافسة أمام لجنة الاتصالات الفدرالية فجأةً إلى التقنية الرقمية، مما سمح لشركة جنرال إنسترومنتس بالعودة إلى المنافسة عبر تحالفٍ مع إحدى الشركات المرشحة. ثمّ حذفت لجنة الانتقاء في لجنة الاتصالات الفدرالية، التي عيّن فيها دونالد رامسفيلد - رغم تضارب المصالح الواضح -، الشركة اليابانية، بحجّة أنّ النظام التماثليّ أقل كفاءةً من الرقمي. بعد ذلك، أوصت اللجنة عينها المرشحين المتبقيين بتشكيل «تحالفٍ كبير» بهدف تطوير معيارٍ رقميٍّ مشترك. وهكذا، وجدت جنرال إنسترومنتس نفسها في موضع القوة. في العام 1993، أدخل تيد فورستمان الشركة في البورصة، فقبض خمسة أضعاف ثمنها الأولي، وخرج دونالد رامسفيلد بقيمةٍ مضافة تقدّر بسبعة ملايين من الدولارات. في آذار 2000، في إحدى المقابلات، أضاء أحد كبار مدراء جنرال إنسترومنتس، هو فرانك درندل، تلك الأفعال دون تزويق، فقال: «كانت جنرال إنسترومنتس الشركة الوحيدة التي اقترحت النظام الرقمي، لكن كان معنا دون رامسفيلد، الذي كانت لديه مداخل في واشنطن، داخل الإدارة.»

 بعد عشر سنوات من ذلك، تبدّى فشل ذلك المعيار. بل إنّ مجلّة «بزنس ويك» وصفته بأنّه «أكبر خطأ في سياسة الاتصالات في القرن العشرين». وهو خطأ عزاه دونالد رامسفيلد إلى لجنة الاتصالات الفدرالية... وفي حزيران 2001، أثناء مؤتمرٍ صحفي توسّع فيه في الحديث عن مساره المهني كمقاول، شرح قائلاً: «كنت في جنرال إنسترومنتس حين طوّرت الشركة أوّل تلفزيون رقمي عالي التعريف. ثمّ أتت لجنة الاتصالات الفدرالية واستولت على الأمر وأوقفته.» الأمر هنا تشويهٌ مميّزٌ تماماً للخطاب المحافظ المتطرّف: إذ يصبح تحويل إجراءٍ ما - على ما يبدو - لأهداف خاصة همجيةً بيروقراطية تخنق حرّية المقاولة. وللطرافة، نشير إلى أنّ رئيس لجنة الاتصالات الفدرالية التي تدين لها جنرال إنسترومنتس بخلاصها كان رتشارد وايلي، وهو محامي أعمال رفعه إلى السياسة رتشارد نيكسون، مثله في ذلك مثل رامسفيلد، وهو اليوم على رأس أحد أهم مكاتب المحاماة المتخصصة في عدّة شؤون من بينها إسداء النصح للشركات التي تتعامل مع البنتاغون. إنّها منّةٌ حقيقية، مع سياسة الشراء والمقاولة من الباطن التي يقوم بها دونالد رامسفيلد.

1993-1999: على متن غلفستريم

في آذار 1990، اشترى تد فورستمان شركةً أخرى تعاني من المصاعب، هي شركة غلفستريم التي تصنّع طائرات أعمال. وسرعان ما أركبت على متن غلفستريم بعض الشخصيات البارزة في الحزب الجمهوري: فقد انضمّ إلى مجلس الإدارة كلٌّ من جورج شولتز في العام 1991، دونالد رامسفيلد في العام 1993، كولن باول في العام 1996(الخصم السياسي للمحافظين المتطرّفين، ذاك الذي لا يتردد حين تحين الفرصة بالانضمام إلى رحلات صيدهم المالية)، وأخيراً، في العام 1997، هنري كيسنجر، عماد حكومتي نيكسون وفورد. ومقابل حضورهم بضع اجتماعاتٍ سنوياً، يحصلون على عدّة آلاف من الأسهم. في حزيران 1999، حين باع تد فورستمان شركة غلفستريم إلى شركة جنرال دينامكس التي تصنّع الأسلحة، قبض كلٌّ منهم قيمةً مضافة تقارب 3 ملايين دولار. إنّ محامي الأعمال المكلّف بمصالح جنرال دينامكس حين جرت عملية البيع، ويليام ج. هينز، هو اليوم أحد معاوني دونالد رامسفيلد. وليس أحد أقلّهم أهميّة: إذ بوصفه رئيس القسم القانوني في البنتاغون، فإنّه هو الذي نظّم الفراغ التشريعي، الذي يناسب جميع الانحرافات، والذي أنشئت فيه السجون العسكرية في غوانتانامو (كوبا) وباغرام (أفغانستان) وأبو غريب (العراق). في مواجهة لجنةٍ في مجلس الشيوخ، اعترف ويليام ج. هينز في كانون الأول 2001 بعدم خبرته في مجال القانون الجزائي. لكن في تشرين الأول 2002، أمام تجمّع قضاة ينتمون إلى اليمين المتطرّف، أخذ على عاتقه، باسم رئيسه، إنشاء مناطق السجون الحرّة تلك، حيث قال: «لدى رئيسي، دونالد رامسفيلد، منظورٌ مشابهٌ وتصميمٌ مشابه على عدم السماح لعقائد اليوم بالوقوف في طريق أهدافٍ هامة متعلّقة بالأمن القومي.» هنا أيضاً، يتعلّق الأمر بتمويهٍ نمطيّ في الخطابات المحافظة المتطرّفة: إذ يصبح الدستور الأمريكي واتفاقية جنيف عقائد، وصنميّةً بيروقراطية، وعوائق منحطّة أمام عمل الرجل المسؤول والحرّ حقاً.

1988-2001: توابع مكافحة الإرهاب

في كانون الثاني 1997، أصبح دونالد رامسفيلد رئيس مجلس إدارة شركة جيلياد التي أنشئت قبل ذلك بعشرة أعوام بهدف إنتاج أدوية لمكافحة الأمراض الإنتانية. غير أنّ اسم جيلياد ربما لا يكون بريئاً. ففي كتابٍ لاقى نجاحاً ونشر في العام 1985، وجدت الولايات المتحدة نفسها مرتبطة باسم جيلياد، بعد أن استولت على السلطة فيها دكتاتوريةٌ عسكرية، حملتها جماهير مستعدة لمقايضة حقوقها بأمنها. لكن لنعد إلى الشركة. كان رامسفيلد يعرفها جيداً. منذ تموز 1988، كان ضمن مجلس الإدارة مع عددٍ من شركائه المعهودين (دخل إليه جورج شولتز في العام 1996). في تلك الفترة، كانت جيلياد تحاول أن تجد مخارج لمادّةٍ مضادةٍ للفيروسات تدعى سيدوفوفير، لم تكن اختباراتها الأولية مشجّعة على الإطلاق: فقد ظهرت حالات من السرطان وإصابات كلويّة خطيرة على الفئران بعد إعطائها بضع جرعات منها. صحيحٌ أنّ إدارة الغذاء والدواء قد أعطت موافقتها على السيدوفوفير في حزيران 1996، إلاّ أنّها حـــصرت ســـماحـــها باستخدامه في نوعٍ محدّدٍ تماماً من الإصابات في الشبكية، وأرفقته بتحذيرٍ حول سمّية المنتج. لم يكن هناك ما يدعم سباقاً في البورصة. علاوةً على ذلك، ففي آب 1998، اضطرّت الشركة أن ترسل إلى الأطباء الأمريكيين رسالةً تشرح لهم أنّه نظراً للحالات الكثيرة من القصور الكلوي، وبعضها مميت، التي حصلت لدى مرضى عولجوا بالسيدوفوفير، فإنّه يُنصح بالالتزام الصارم بالجرعة الموصوفة. 

جاء الخبر الجيّد من باحثٍ في البنتاغون، هو جون هغنز، الذي خرج من نفس المؤسسة التي خرج منها أرثر هل هيز (الرجل الذي سمح باستخدام الأسبارتام). فقد أعلن أنّ السيدوفوفير فعّالٌ جداً ضدّ الفيروس المسبب للجدري. منذ ذلك الحين، أدخل البنتاغون مادّة جيلياد في أبحاثه حول الإرهاب البيولوجي. في آذار 2002، وكان دونالد رامسفيلد قد أصبح وزيراً للدفاع، أعلن كلٌّ من جون هغنز والأستاذ الجامعي كارل هوستيتلر أنّهما قد صنّعا نسخةً جديدة من السيدوفوفير، أكثر عمليةً، يمكن إعطاؤها للسكان في حال حدوث هجومٍ إرهابي بفيروس الجدري. من جهةٍ أخرى، فإنّ كارل هوستيتلر هو رئيس مجلس إدارة شركة صيدلانية، اشترتها جيلياد في كانون الأول 2002 بمبلغ 460 مليون دولار. ها قد أصبح ثرياً. وها قد أصبح المستقبل التجاري للسيدوفوفير مؤكّداً، بعد أن أصبح ضمن خطّة مشروع الحاجز البيولوجي الذي أطلقه بوش في شباط 2003 ورصد له 6 مليارات من الدولارات، والذي يهدف إلى تطوير أدوية ولقاحاتٍ ضدّ هجماتٍ بيولوجية وكيميائية محتملة. 

 

 لكنّ أحد أعضاء فريق بوش، هو دونالد هندرسن، المدير الأسبق لمنظمة الصحة العالمية (التي كانت في السبعينات مسؤولةً عن برنامج التمنيع ضدّ الجدري) طرح في آذار 2002 في مجلة «نيتور» العلمية سؤالاً مثيراً للاهتمام: لماذا هذا الإصرار الشديد على تطوير السيدوفوفير، في حين أنّه سامٌّ بشكلٍ كبير وأنّ هناك طريقةٌ مجرّبة، هي التمنيع؟ بعد شهرين من نشر أسئلته المحطّمة للصور المقدّسة، ترك الدكتور هندرسون فجأةً منصبه. في ذلك الحين، كان دونالد رامسفيلد وزيرَ الدفاع الكلّي القدرة. وفي مكتبه في البنتاغون، كان يجري تحضير الحجج حول أسلحة الدمار الشامل المزعومة... والتي أدّت إلى الحرب في العراق... كان لدى رامسفيلد شعاره المعروف: «الصدمة والرعب». خلال عشرين عاماً، كرجل أعمال أطلق دواء الأسبارتام، شعاره: «حلو مخفّض (الحريرات)». وهو فعلاً محلّى صناعي يتسبب في الصداع، وقبله أنبوب نفط للدكتاتور، وتلفزيون لا يعمل، ومضاد للجدري يدمّر الكليتين... والآن حربٌ في العراق... إنّه تاريخ مسارٍ مهنيٍّ موسومٍ بالأعمال التجارية تحت غطاء الإيديولوجيا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
225