الفشل في العراق وفلسطين نكسة استراتيجية أمريكية آصبحت وشيكة

ما مدى خطورة النكسة الاستراتيجية التي تعانيها الآن قوة الولايات المتحدة لفشل المحافظين الجدد في تحقيق أهدافهم في العراق وفلسطين؟ إن أبعادها الكاملة لم تلمس بعد لأسباب احدها أننا لا نعلم بعد كم سيتدهور الوضع أكثر بالنسبة إلى الولايات المتحدة أو العراق أو أماكن أخرى في المنطقة، قبل أن يستقر في النهاية.

لكن من الواضح بالفعل أن قوة الولايات المتحدة تعاني نكسة في العراق ذات أبعاد تاريخية حقاً.

عندما اوفد بول بريمر، الوجه العلني لمجموعة «الرسالة الساطعة»، الى العراق في ايار  2003، كانت مهمته ان يعيد صنع مجتمع العراق واقتصاده بطريقة تمكن شركات اميريكية من الهيمنة على كل قطاعات الاقتصاد الوطني فيما يمكن للمؤسسة العسكرية الاميريكية ان تحصل على حقوق طويلة الامد لاقامة قواعد داخل البلاد. لكن لا توجد اي فرصة، الآن، في ان تسمح اي حكومة عراقية شرعية بمثل هذه التغييرات الجذرية.

وفي الوقت ذاته، ادت حماسة المحافظين الجدد المناهضة للسعودية، الى حرمان المؤسسة العسكرية الاميريكية من موقع يمكن التراجع اليه بسهولة داخل السعودية والتعويل عليه كمكان لقواعدها العسكرية. وسيشهد ميزان القوى الاستراتيجي في منطقة الخليج بالتأكيد تغييراً مستمراً باشكال مثيرة جداً للاهتمام، وعلى حساب قدرة الولايات المتحدة على الاحتفاظ بقوة كبيرة هناك على المدى البعيد.

كما ذهب المحافظون الجدد الى اقناع الرئيس بوش بأن يمنح الدعم لاستخدام شارون المتواصل تكتيكات البلطجة في فلسطين.

الآن، بسبب هذا السعي لتحقيق اهداف ابعد كثيراً مما يمكن تحقيقه، نشهد نهاية عصرٍ دام ثلاثين عاماً تمكنت فيه الولايات المتحدة من احتكار كل الديبلوماسية على صعيد القضية العربية الاسرائيلية. واصبح واضحاً في الوقت الحاضر ان هذا الوضع لا يؤدي الاّ الى مأزق ديبلوماسي، واستمرار سياسات مصادرة الارض الاستعمارية التي تنتهجها اسرائيل في فلسطين.

هذا الجانب من السياسة الأميريكية له آثار سلبية واضحة على قدرتها في ان تنال المساعدة التي تحتاج اليها من حلفاء  قدامى مثل الاردن والسعودية ومصر فيما تفتش عن وسيلة لتجنب كوارث مستقبلية في العراق. ان «المجتمع الدولي» بحاجة حقاً الى صوغ مقاربة جديدة تجاه القضية الفلسطينية: مقاربة تنتزع رعاية الديبلوماسية من الاعيب واشنطن المزاجية والايديولوجية .

لكن دعونا نعد الى مسألة البعد المتعلق بالنكسة الاميريكية المستمرة في العراق. هناك مرتان في تاريخ العالم هيمنت فيهما الولايات المتحدة على السياسة العالمية. كانت اولى لحظتي الهيمنة في 1945. وجاءت الثانية في 1991 عندما قادت الولايات المتحدة، في اعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، تحالفاً عالمياً تمكن بسهولة من اظهار قدراته العسكرية في العراق.

في 1945، امتلكت كل الحكومات المتحالفة الرئيسية السلطة الاخلاقية الهائلة المستمدة من كونها انقذت العالم من بلاء هيمنة قوى المحور. لكن الولايات المتحدة كانت وحدها تملك، في تلك اللحظة في التاريخ، قيادة وافرة لمكونات العنف. وفي ما يتعلق بالاقناع تقاسمت روسيا، وبدرجة اقل الصين، مع الولايات المتحدة امتلاك «رؤية» لمستقبل العالم يمكن تأييدها، بينما كانت بريطانيا وفرنسا ما تزالان تغوصان عميقاً في وحل فظاعات الاستعمار. وعلى صعيد مكونات العنف كانت الولايات المتحدة، في تلك اللحظة، هي «الفائزة» من دون ادنى شك.

وابتداءً من 1948، خاض السوفيات كفاحاً ثابتاً ضد هيمنة الولايات المتحدة. لكنهم عجزوا عن كسب تأييد جدي من  العالم.  وفي 1989، كما نعرف، انهارت كلياً محاولة السوفيات للاحتفاظ بتحالفهم مع جزء كبير من اوروبا عبر «حلف وارسو»، وبعد ذلك بأربع سنوات جرى تفكيك الاتحاد السوفياتي. 

واعطى انهيار الاتحاد السوفياتي الفرصة لاولئك الاشخاص في الولايات المتحدة الذين كانوا يحلمون بهيمنة عالمية لاميريكا. وكان هؤلاء، بشكل اساسي، هم المحافظين الجدد. 

فشل بوش الأب  في تقديم «رؤية» للعالم ملهمة بدرجة كافية الى ناخبيه بالذات. (وبالفعل، عرف عنه استهزاؤه علناً بـ«مسألة الرؤية»، كما كان يطلق عليها.) وهكذا، في 1992، استبدل ببيل كلينتون.

 ويتحمل كلينتون وفريقه للسياسة الخارجية بالتأكيد قسطاً كبيراً من المسؤولية عن عدم تضلّعه بالقضايا الاستراتيجية العالمية، فقد كانت علاقته بقادة المؤسسة العسكرية الاميركية قلقة، الى حد انه شعر كما يبدو بعدم قدرته على تجاوز مشورتهم في لحظات اساسية عندما كان ينبغي تجاوزها. 

لكن الاهم من كل ذلك هو ان كلينتون فشل في ان يوضح بتفصيل،اي «رؤية» مقنعة للطريقة التي يريد ان تنظّم بها الشؤون الدولية . وكان هو ومستشاروه نشؤوا في عصر الحرب الباردة، عندما كان «الفوز» ما يزال الهدف الاستراتيجي الكبير. وقد اثبتوا عجزهم عن تكييف اقوالهم او افعالهم مع رؤية لعالم اكثر تعاوناً ومساواة.

 وعندما غادر موقعه في مطلع 2001، كان النزاع الاسرائيلي الفلسطيني يدخل احدى مراحله الاكثر سخونة ودماراً.

ومن نواح كثيرة، مهّد اعتماد كلينتون المتواصل على مقاربة «العب لتفوز» في التعامل مع الشؤون الدولية لوصول مجموعة «العب لتفوز» الاكثر طموحاً وتهوراً الى السلطة في كانون الثاني 2001: المحافظين الجدد. وينبغي ان الفت الى ان هؤلاء  ليسوا محافظين اطلاقاً بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل انهم بالاحرى متطرفون مستعدون لتحمل مخاطرات هائلة سعياً لتحقيق اهدافهم الايديولوجية ذات الطابع التغييري والموغل في التطرف. وما يزال الاذى الكبير الذي تلحقه، قراراتهم بارواح ومصالح العراقيين والفلسطينيين، وبالمصالح الحقيقية للشعب الاميركي؟ ماثلاً في الذاكرة ويسهل ادراكه. ان ما نقرأ عنه بانتظام يبعث على الاكتئاب في صفحات الاخبار كل يوم.

 

خلاصة القول ان ما تعانيه الولايات المتحدة حالياً في العراق يمثل نقطة تحول مهمة في تطور الشؤون الدولية. ويمثل التعامل مع نقطة التحول هذه بطريقة تتجنب المزيد من النزاعات واتساعها ولكن تفضي بالاحرى الى عالم اكثر تعاوناً ومساواة، مهمة تقتضي حكمة هائلة.