القمع والإرهاب الشامل.. ومعاداة الحرية احذروا أمريكا الإرهابية فهي قادمة....

عندما كتب الروائي البريطاني الكبير جورج أورويل روايته الشهيرة (1984) التي تعتبر من أهم المراجع الأدبية التي تتحدث عن الدولة التولوتارية، وصف فيهاحالة الخراب التي يعاني منها المجتمع الواقع تحت سيطرة الأجهزة القمعية. لم يكن يخطر في بال أحد أنه يمكن أن يتحقق شيء مما كتبه أورويل في الولايات المتحدة الأمريكية بلد «الحرية» و لكن يبدو أن هذه الفكرة بدأت تضمحل أمام الواقع الجديد الذي بدأت ملامحة تظهر بعد أحداث الحادي عشر من أيلول والتي امتلكت الولايات المتحدة إرهاصاته في الخمسينات أيام المكارثية الظلامية.

تدور أحداث رواية (1984) في دولة أوقيانيا وهي دولة يحكمها حزب واحد وعلى رأسه (الأخ الأكبر) تأتي منه كل القرارات والأوامر حتى حول كيفية قضاء أوقاتهم وتقوم الأجهزة القمعية بمراقبة الناس عبر أجهزة التلفاز التي لا تبث فقط بل تصور تحركات الناس فحتى التفكير غير مسموح به ولو لحظة بعيداً عن الرقابة.

بعد أحداث الحادي عشر من أيلول بدأت الإدارة الأمريكية في التحرك لإصدار مجموعة من المشاريع التي تسمح للإدارة بالتدخل ومراقبة المواطنين والزائرين على مدار الساعة، ومنها تكليف الجنرال «جون بوينديكستر» الذي عينه الرئيس الأمريكي في أوائل العام الماضي لتولي إدارة جديدة داخل وزارة الدفاع البنتاغون مهمتها تطوير أنواع التكنولوجيا التي تزود الحكومة الفيدرالية ومسؤوليها بوسائل حديثة للتتبع والمراقبة والتجسس. ويهدف هذا المشروع إلى جمع المعلومات حول كل شخص على سطح الكرة الأرضية تتضمن معلومات شخصية عنه و عن اتصالاته الهاتفية ومراقبة بريده الالكتروني والمواقع الالكترونية التي يزورها على شبكة الانترنت والضمان الصحي والاجتماعي باختصار كل ما يتعلق بحياته العامة والخاصة. 

و قد وقعت السلطات الفيدرالية الأمريكية اتفاقا مع المفوضية الأوربية تتمكن من خلاله تسلم معلومات خاصة عن القادمين. فقبل دخول الطائرة تكون السلطات الفيدرالية قد اطلعت على أسمائهم وأعمارهم وعناوينهم وأرقام جوازاتهم وبطاقات الائتمان وحالتهم الصحية وخياراتهم لجهة المأكل (مما قد يعكس انتماءهم الديني) ورحلاتهم السابقة وأسماء وأعمار من رافقهم فيها والمنظمات التي قد تكون مولت بعض هذه الرحلات الخ... هذه المعلومات تسلم إلى جهاز مركزي للفرز أطلق عليه «النظام المعلوماتي للرقابة المسبقة» والهدف منه كشف مشبوهين محتملين وذلك من خلال مقارنة المعطيات مع معلومات أجهزة الاستخبارات و وزارة العدل و الخارجية و المصارف و يعطى الجهاز مباشرة بعد المقارنة لوناً للقادمين فالأخضر لمن لا شكوك حوله، والبرتقالي لمن تدور الشكوك حوله، والأحمر للممنوع من الصعود إلى الطائرة ويكفي أن تكون مسلماً أو من أصول عربية حتى تعطى اللون الأصفر تلقائيا هذا اللون الذي يسمح للسلطات الأمريكية أن تأخذ بصماتك وتقوم بتصويرك.

تصف رواية أورويل آليات تحول المجتمع إلى مجتمع أمني من خلال تحويل كل أفراد المجتمع إلى مخبرين أعضاء في (البوليس الفكري) وحتى الأطفال يتم تدريبهم على هذا الأمر فلا يمر أسبوع دون أن تخرج صحيفة التايمز بمقالة تصف كيف أن أحد الصغار «بطل الأطفال» قد استرق السمع لبعض التعليقات المشبوهة لوالديه وأبلغ عنها شرطة التفكير. 

تشجيع الوشاية بالآخرين من سمات المجتمعات الشمولية، ولكن أثناء الحرب الباردة وفي الحقبة المكارثية تحديداً تحول الإبلاغ عن الآخرين من ضمن التقاليد الأمريكية فقد كانت الـ«اف بي أي» تناشد الأمريكيين كافة بان (يقوموا بإبلاغ مكاتبها مباشرة عن أية شكوك لديهم أو ارتياب لوجود أي نشاط شيوعي).

وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول سعت الإدارة الأمريكية ممثلة بوزير العدل الأمريكي (جون أشكروفت) إلى إطلاق حملة أسماها (نظام الإبلاغ والوقاية من الإرهاب) ويتمثل هذا المشروع في تدريب حوالي المليون من العاملين في قطاع الخدمات الذين يمكنهم الدخول إلى المنازل من أمثال عمال البريد و عمال تركيب كبلات التلفاز وجباة الفواتير للتجسس على المواطنين ولتقديم التقارير لحساب وزارة العدل، ولكن هذا المشروع لم ينجح إذ تم إيقافه من قبل الكونجرس الأمريكي بعد حملة دعائية كبيرة.

في رواية أورويل تستطيع الأجهزة أن تعتقل أي إنسان كان دون تصاريح اعتقال وتسجنه دون محاكمات، فقد كان الناس يختفون بكل بساطة، وأثناء الليل في الغالب، وأسماؤهم ترفع من السجلات ويمحى نهائياً كل سجل لأي شيء فعلته في أي وقت مضى، بل يُنكر ثم ينسى، حتى وجوده في فترة من الماضي تمحى، تباد: أي يتبخّر.

لقد أوجدت الولايات المتحدة الأمريكية بحجة مكافحة الإرهاب (قانون الصك الوطني) الذي يعفى فيه الجيش الأمريكي من تقديم أسماء أو معلومات عن الذين اعتقلهم بناءً على «معلومات سرية» ويعطي الحق بمواصلة الاعتقالات التي تقوم على «أدلة سرية» ويتم وفق هذا الصك حرمان المعتقلين من الاتصال بمحامين ولعل نموذج المعتقلين في غوانتانامو خير مثال على تطبيقات هذا الصك بالإضافة للآلاف الذين تم اعتقالهم دون توجيه تهمة لهم. أخلي سبيل أكثرهم ومازال بعضهم في السجون الأمريكية دون تهمة محرومين من الاتصال بالعالم الخارجي.

في رواية أورويل تأسست الدولة على أربع وزارات أهمها وزارة الحقيقة وهي مؤسسة ضخمة تضم بناياتها أكثر من ثلاثة ألاف غرفة تتولى نشر دعاية الحزب و تغيير التاريخ والحقائق.

فليس غريباً على الإدارات الأمريكية المتعاقبة حالة التزوير والكذب والتي ظهرت جلياً في الماضي أثناء حرب فيتنام ولكن إدارة جورج بوش اليوم ترفع وتطبق شعار أن (الحقيقة هي ما تقوله) فتأخذ الأحداث شكلاً منطقياً متسلسلاً وذلك بالاستفادة من الموارد المتاحة للإدارة الأمريكية و الإعلام الواقع تحت سيطرة الشركات الكبرى. 

وبذلك نرى السيناريوهات المتعددة مرسومة وجاهزة بنسخ عديدة لتظهر في وقتها والآن نشهد جزءاً من فصولها المتعلق بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، هذا السيناريو الذي كان حجة الإدارة الأمريكية لتبرر غزوه والذي اتضحت حقيقة كذبه الآن لنرى أكثر من سيناريو جاهز لتبرير الغزو منها تخليص المنطقة من خطر كان يهددها ولجلب «الديمقراطية» للشعب العراقي المسكين الذي عانى من ديكتاتورية صدام عشرات الأعوام..........  ولنرى بعد ذلك مجموعة من الكذبات الملفقة بحق إيران وسورية والقائمة ستطول حتماً. 

في دولة أورويل تطالعك دائماً أينما ذهبت شعارات ثلاثة على لوحات الطرق على قطع النقود على الطوابع في كل مكان: الحرب هي السلام، الحرية عبودية، الجهل قوة.

في الولايات المتحدة الأمريكية يشنون الحرب و يقنعون الناس بأنها ستجلب السلام لقد عمقت الإدارات الأمريكية المتعاقبة مفهوم الحرب الوقائية ضد أعداء مفترضين وشنت عبر تاريخها الحديث عشرات الحروب وخلفت ألاف القتلى في كوبا وفيتنام والسلفادور ويوغسلافيا وأفغانستان....... وأخيراً وليس أخراً العراق .

أما عن تطبيقات الشعار الأخير فإن احتكار المعلومات و الترويج لما تريده الإدارة الأمريكية أوقع الشعب الأمريكي في دوامة الجهل. لننظر إلى أحد استطلاعات الرأي الذي أجرته جامعة (ميريلاند) الأمريكية.  ففي هذا الاستطلاع يعتقد 33 % من الشعب الأميركي أن القوات الأمريكية قد عثرت على أسلحة دمار شامل في العراق ويرى 22 % أن العراق قد استخدم فعلاً أسلحة كيماوية أو جرثومية في حربه الأخيرة ضد القوات الأمريكية، إنه الجهل الذي تحاول الإدارة الأمريكية تعميمه لتجد التأييد لها في حربها ضد ما أطلقت عليه اسم (الإرهاب).

في رواية أورويل ثمة عدو أسمه (غولدشتاين) وهو شيء غامض لا نعرف حتى نهاية الرواية، هل هو موجود فعلاً؟ أم أن الحزب قد ابتكره ليجعل منه العدو الأوّل للدولة والحزب والأخ الأكبر؟ وليجعل كل من لا يرغب فيه من الناس متهمين بالاتصال به والتآمر معه وبالتالي عرضة للاعتقال والموت والتبخر. 

لقد برعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة في اختراع عدو مخيف يهدد السلام العالمي، ففي زمن الحرب الباردة كان الخطر الشيوعي ماثلا في الأذهان ومبرراً لارتكاب الكثير من الحروب ولتغذية النزاعات ولدعم أكثر النظم ديكتاتورية في العالم، ولكن بعد انهيار بلدان المنظومة الاشتراكية كان لا بد للإداراة الأمريكية من اختراع عدو جديد، فبدأ منظرو الإدارة الأمريكية في التحضير لإيجاد خطر جدي، فخرج علينا صموئيل همنتجون في كتابه «صراع الحضارات» ليرسم لنا صورة عدو جديد يمتلك حدوداً دامية يتمثل في الحضارة الإسلامية وثم تأتي أحداث الحادي عشر من أيلول لترسم صورة العدو بشكل واضح مجسداً في «أسامة بن لادن» ليكون عدواً يبرر تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية المعدة مسبقاً لتشن حروبها الاستعمارية الجديدة على العالم بحجة مكافحة الإرهاب. وليقسم جورج بوش العالم إلى محورين: محور «الخير» الذي يمثله مع حلفائه ومحور «الشر» الذي يضم «الدول المارقة» وليطلق صوته مدوياً في العالم (إما معنا أو علينا)، لكن صورة العدو يمكن لها أن تتغير تبعاً للمخطط فيتم اختراع عدو جديد كما حدث مع صدام حسين العدو المارق والذي لا يخفى على أحد أن هذا الديكتاتور وأمثاله في العالم هو من صناعة وإنتاج الإدارات الأمريكية المتعاقبة.

عندما كتب أورويل روايته (1984) كان يريدها صرخة مدوية تحذيرية لما يمكن أن يحدث في العالم لو سيطرت القوى التولوتارية على زمام العالم، و قد صرح قبيل وفاته (لا أؤمن بأن مجتمعاً كالذي وصفته ممكن قدومه، إلا أنني مؤمن بأن شيئاً مماثلاً يمكنه ذلك) حقاً فهاهي الإدارة الأمريكية تعيد إنتاج أورويل ولكن بصورة أكثر بشاعة معتمدة في ذلك على الإمكانات الهائلة التي تمتلكها هي صرخة (احذروا أمريكا التولوتارية) فهي قادمة. 

■ سامر الصالح

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.