الأنتلجنسيا... ومشكلة الانتماء

كلمة أنتلجنسيا استوردت من روسيا القرن التاسع عشر، وكانت تدل على مجموعة المثقفين (محامين وأطباء ومهندسين وملاكي أراض وموظفين أتوقراطيين) المنبثقين من فئات الطبقة الوسطى ونتناول الكلمة هنا بمعنى المثقفين، أيا ً كان دورهم المهني والاجتماعي والسياسي، والذين يجمع بينهم كونهم متعلمين ومؤهلين مهنياً واجتماعياً.

الأنتلجنسيا هي بطبيعتها مع الرأسمالية الدولية، لأنها تعمل في مختلف مؤسساتها (الإعلامية، المهنية، السياسية، العسكرية، البحثية) أي أنها تابعة للرأسمالية الدولية بمواردها وتقدم لها بالمقابل مختلف الخدمات المتعلقة بمهنها.

غير أن الأمور ليست، أو لا تبقى على ما يرام بين الأنتلجنسيا والرأسمالية الدولية، لأن مختلف تناقضات المجتمع الرأسمالي تطولها، التمييز والتهميش والبطالة وضعف الأجور والتعسف في استعمال القوانين والأنظمة، الفساد، إلخ... ولذا تنتقل بعض قطاعات الأنتلجنسيا  من الرضى إلى النقمة، النقمة الموجهة ضد شخص أو أشخاص أو ضد مؤسسة أو مؤسسات، ثم إلى المعارضة، التي تبقى في إطار الرأسمالية غير أن بعض قطاعات الأنتلجنسيا يمكن أن تنتقل في ظروف معينة إلى المعارضة الثورية، أي المعارضة التي تستهدف النظام الرأسمالي نفسه، وهذه الأنتلجنسيا الثورية قادت الثورات أو المحاولات الثورية الفاشلة أو الناجحة في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين، وهي الآن تقود الحركات المناهضة للعولمة.

صعبة هي مهمة الأنتلجنسيا الثورية، يجب أن توفق بين ضرورة خدمتها للرأسمالية بشكل ما كي تعيش، لأنه من دون ذلك لا تستطيع أن تبقى على قيد الحياة، ولا تستطيع بالتالي، لا أن تكون ثورية، ولا غير ثورية، وبين أن تقوم بمهمتها الثورية، وأن تقوم بمهمتها الثورية، والتوفيق بين الأمرين ليس سهلاً، وكثيراً ماترجح المصالح الشخصية على  المهمة التاريخية، وحينئذ لا ينهار الفرد فقط، وإنما أيضاً التنظيم السياسي أو الاجتماعي، الذي تقوده الأنتلجنسيا، وبهذه الآلية انهارت تنظيمات هي بالأساس ثورية، حزبية أو نقابية، لاحصر لها، ولولا ذلك لتغير وجه العالم بل ووجه الكوكب.

لنتصور أن أحزاب الأممية الثانية لم تتحالف مع رأسماليات بلدانها، فكيف كان ذلك سيؤثر على تطور أوروبا؟ هل كانت ستنشب الحرب العالمية الأولى؟ أما كان سيتغير وجه العالم؟ طبعاً لا يستطيع المرء أن يضع فرضيات نظرية ويبني عليها في تطور المجتمعات، ولكن الأمر الذي يبقى صحيحاً هو أن حركة الأنتلجنسيا الاجتماعية السياسية هي هامة جداً بالنسبة لتطور العالم. ذلك أن الأنتلجنسيا هي التي تقود العالم سواء كان ذلك لحساب الرأسمالية الدولية، أو لحساب الرجعية، أو لحسابها وحساب الطبقة العاملة. إن الأنتلجنسيا هي التي تصنع التطور وهي التي تقود الدول، وهي التي تقود مختلف التشكيلات الرجعية والتقدمية.

الرأسمالية الدولية لا تستطيع بنفسها لا غزو الفضاء، ولا تطوير العلوم الطبيعية والإنسانية، ولا وضع مختلف الخطط العسكرية والمخططات السياسية ولا الطرح الأيديولوجي، أو الطرح الإعلامي، إنها تبني في معاهدها ومؤسساتها التعليمية مختلف قطاعات الأنتلجنسيا وتستأجر جحافلها لكي تقوم هذه بمختلف الخدمات السلمية والحربية. فالإدارة هي تجنيد ضخم ويتضخم أكثر فأكثر، للعمل الذهني، مثلما كانت الصناعة تجنيداً ضخماً، ومتضخماً مع الزمن للعمل اليدوي.

وهي في الواقع الراهن، كما كان الأمر في الماضي، وظيفة العمل الذهني هي السيطرة على العمل اليدوي، وسجنه في إطار التبعية، وكذلك السيطرة أو المساعدة في السيطرة على العمل الذهني ذاته وإبقائه في دائرة التبعية، التبعية لمن؟ في الماضي التبعية للأسياد التقليديين، ومع التحول إلى البناء الرأسمالي، التبعية للرأسمالية، والآن التبعية للرأسمالية الدولية حيث الرأسماليات الفرعية نفسها تابعة للرأسمالية الدولية.

يمكن أن يتصور المرء أن العمل الذهني لن يبقى تابعاً إلى الأبد، فسوف ينتقل آجلاً أو عاجلاً إلى قيادة التطور لحسابه وحساب الطبقة العاملة، بدلاً من قيادته لحساب الرأسمالية الدولية، قد يبدو هذا بعيداً في ظل الهيمنة الرأسمالية الخانقة المخيمة كابوساً ثقيلاً على العالم، ولكن بالتحليل قد يستطيع المرء أن يرى الأمر قريباً جداً. الواقع أن من يصنع الهيمنة هو العمل الذهني نفسه، فمن دونه تبقى الرأسمالية مجردة من كل أوراقها على الإطلاق.

ومع ذلك فإن المسافة بين تبعية العمل الذهني للرأسمالية الدولية وتحرره منها ليست قصيرة مثلما كانت المسافة بين العبودية والتحرر منها غير قصيرة، لقد استغرقت من بداية التاريخ المكتوب حتى القرن الثامن عشر، أي أكثر من عدة آلاف من السنوات.

هل يبقى العمل الذهني عدة آلاف من السنوات كي يتحرر؟ إلى أن يمكن أن يجري تدمير الكوكب قبل تحرره، تدميره بالأسلحة النووية، بالأوبئة، بالجوع الشامل، بتغيير البيئة وجعلها غير قابلة للحياة، إلخ...

هنالك مؤشرات سلبية عديدة في المجرى الحالي للتاريخ، ولكن هناك أيضاً مؤشرات إيجابية، النضال ضد العولمة هو مؤشر إيجابي، وموجود في المنظمات السياسية والنقابية البروليتارية أو التقدمية المعادية للإمبريالية هو مؤشر إيجابي، يبقى أن هذه المؤشرات الإيجابية تبقى ضعيفة إذا ما بقيت حركتها آنية، ومنعزلة، وإذا ما بقيت في واد والعمل اليدوي عملياً في واد آخر.

إن اتصال الأنتلجنسيا الثورية بشكل حي ومستمر بالطبقة العاملة وبالجموع المسحوقة والمهمشة، هو أمر أساسي، ليس فقط .... قوة المنظمات ذات العلاقة، وإنما أيضاً لتعبئة الأنتلجنسيا على نطاق أوسع فأوسع.

الاتصال بالطبقة العاملة من عل لايفيد شيئاً، الاتصال الحي هو الضروري، وغياب ذلك هو الذي أدى إلى الانهيارات والنكسات منذ الأممية الثانية حتى اليوم.

الأنتلجنسيا تعرف..... كيف تقود المجتمع لحساب الرأسمالية الدولية، و المطلوب أن تكتسب خبرات أكبر في قيادة المجتمع لحسابها وحساب الطبقة العاملة، وذلك بصورة خاصة قبل فوات الأوان.

 

■ محمد الجندي