النخاسة في عصر العولمة.. تهريب البشر واستيراد الأوبئة
تلقت الحكومة الألمانية تقريرا من جهاز الاستخبارات يحذر من تسلل الأجانب غير الشرعي الى أراضي الاتحاد الأوروبي ويكشف بعض نشاطات المافيا الدولية والطرق والأساليب التي تعتمدها لتغرير أبناء العالم الثالث بحجة تأمين دخولهم الى اوروبا.
ويقدر تقرير الاستخبارات الألمانية، الذي نقلت جانبا من فحواه مجلة «درشبيغل»، أرباح تجارة تهريب البشر الى أوروبا بخمسة مليار دولارات سنويا، يذهب نصفه تقريبا لصالح «المافيا الفيتنامية»، التي تعتبر «الأنشط» بين مافيات التهريب الدولية.
ويشير تقرير الاستخبارات الألمانية الى «وسائل قاسية ودموية» تستخدمها المافيات الدولية في عمليات تهريب البشر الى أوروبا مما يؤدي في أحيان كثيرة الى خسائر في الأرواح، كما يشير التقرير الى نشاط «المافيا الروسية» التي تشكل نقطة لقاء وتقاطع بين مافيات التهريب، والتي تنجح في تهريب أكثر من مليوني لاجىء أجنبي سنويا الى أوروبا،، معظمهم من روسيا البيضاء وأوكرانيا.
وتنشط مافيات تهريب البشر جوا وبحرا وبرا، وتتخذ لها نقاط تجمع وعبور محددة في محيط القارة الأوروبية، وعلى الرغم من اجراءات الأمن وأجهزة حرس الحدود الأوروبي فقد توصلت المافيات الدولية الى تحديد نقاط تسلل وعبور شبه ثابتة، تعتبر «سالكة وآمنة» أمام المتسللين، وذلك عن طريق الرشاوى وتزوير المستندات الثبوتية لأصحاب العلاقة.
المافيا الفيتنامية
وتعتبر نافذة التسلل الفيتنامية الى أوروبا الأوسع والأنشط، وتتخذ من موسكو محطة «ترانزيت» في نقل اللاجئين، جوا ثم برا، عبر الحدود البولندية الألمانية، سيرا على الأقدام ليلا، ثم سباحة لقطع نهر «أودر» قريبا من مدينة «تشاشين» الحدودية.
وفي حال نجاح المتسللين الفيتناميين الى المانيا، تعمد المافيا الفيتنامية بالتعاون مع المافيا البولندية والروسية الى نقل المتسللين بواسطة باصات نقل صغيرة الى داخل المدن الألمانية حيث يجري تشريدهم في الأزقة والزواريب، مع كلمة وداع أخيرة مفادها «دبر رأسك»!
والعامل المساعد في نجاح مافيات تهريب البشر الفيتنامية هو وجود مئات ألوف العمال الفيتناميين في أوروبا نتيجة عقود عمل سبق أن وقعتها الدول الاشتراكية الأوروبية مع فيتنام، وهذه «تركة ثقيلة» أجبرت دول الاتحاد الأوروبي، وتحديدا المانيا الموحدة على تنفيذها «لأسباب انسانية».
وتلاقي دوائر الشرطة الأوروبية صعوبات جمة عند التثبت من هويات الفيتناميين وذلك لتشابه سحناتهم الخارجية عند مقارنتها مع الصورة الفوتوغرافية على الأوراق الثبوتية، ولتشابه أسمائهم، كما لصعوبة تدوينها في السجلات الأوروبية لعجز اللغة عن التوفيق بين النطق والكتابة في اللغة الفيتنامية.
وتعتبر تجارة بيع الدخان المهرب هي الرائجة في اوساط اللاجئين الفيتناميين الى اوروبا الى جانب مهنة العمل في المطاعم، وكثيرا ما تقع جرائم قتل واشتباكات مسلحة في أوساط المافيا الفيتنامية بسبب الخلاف على توزيع المغانم والأرباح.
المافيا الروسية
معظم قيادات وعناصر المافيا الروسية ينتمون الى أجهزة الاستخبارات الشرقية وهي تستفيد من شبكة العلاقات الوثيقة التي كانت قائمة بين أجهزة الاستخبارات في الدول الأشتراكية، وتتخذ من موسكو محطة لتنشيط تهريب البشر وتوزيع لاجئي العالم الثالث على الدول الأوروبية.
ومعظم «زبائن» مافيا التهريب الروسية هم من «انتاج محلي» أي من مواطني جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، وهؤلاء يتسللون الى أوروبا بحثا عن فرص عمل ومستقبل أفضل، وتعتبر نقاط العبور البولندية والتشيكية هي الأفضل بسبب الرشاوى التي تدفعها المافيا الروسية لموظفي الجمارك وحرس الحدود في بولندة وتشيكيا، وأيضا بسبب النجاح الفائق في تزوير الأوراق الثبوتية وسمات الاقامة والمرور.
وعلى الرغم من المصاعب التي تواجه المتسللين الأجانب الى أوروبا، فان العائلات اليهودية الوافدة من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق - على العكس من بقية الجاليات - تلاقي تسهيلات أوروبية، وتحديدا ألمانية، في الحصول على مسكن مفروش واعانات اجتماعية.
وينشط المتسللون الروس الى أوروبا في جرائم تزوير وغسل العملات والدعارة وادارة ألعاب الميسر وتجارة الألبسة والألكترونيات والقطع الكهربائية المغشوشة والمزورة.
وتجني مافيا تهريب البشر الروسية أرباحا طائلة من خلال استغلالها لمدينة موسكو كمحطة ترانزيت واقامة مؤقتة لبقية المافيات الدولية التي تمتد تجارتها الى خارج حدود القارة الأوروبية.
المافيا المغربية
تنشط على طريق شمال إفريقيا إلى أوروبا، ويعتبر مضيق جبل طارق، ممرها الرئيسي، وهي تقيم مقرات لها في المغرب وتونس والجزائر، وتعمل على تسهيل عمليات التهريب في قوارب بحرية، تجتاز ليلا المضيق، فيصل بعضها ويغرق البعض الآخر بسبب ثقل الحمولة البشرية على القوارب.
وتقوم طرادات الحراسة الاسبانية بمكافحة تهريب البشر من شمال إفريقيا إلى أوروبا عبر استعانتها بعدسات تصوير ليلي وقطع الطريق على المتسللين وإعادتهم إلى ضفة المضيق التي وفدوا منها.
وتقوم مافيا تهريب البشر المغربية بتفريغ «حمولتها» على الشاطىء الاسباني حيث تضطر السلطات الاسبانية إلى منح المتسللين سمات اقامة مؤقتة لمدة عشرة أيام تكون كافية لانتقال المتسللين إلى بقية الدول الأوروبية وتحديدا فرنسا وألمانيا.
والتسهيلات التي تقدمها السلطات الاسبانية ناتجة عن قناعتها بأن المتسللين لن يقيموا في اسبانيا بل سيقصدون وسط أوروبا وشمالها، وهذه الثغرة سببها غياب قانون أوروبي موحد يرعى شؤون اللاجئين الأجانب الى أوروبا.
ومن الخطط المميزة التي تعتمدها المافيا المغربية هي شحن المتسللين في مستوعبات منقولة على ظهر السفن حيث يتسللون ليلا الى البر بعد ان تربض البواخر على الشواطىء الأوروبية، لكن هذه الخطط أودت بحياة العديد من المتسللين اختناقا نتيجة حشرهم أو نتيجة تعثر فتح باب المستوعب بسبب وجود دوريات مراقبة وتفتيش أوروبية.
ويعمل المتسللون من شمال إفريقيا إلى أوروبا في مجال بيع المخدرات والدعارة والعمل في المطاعم وتجارة السيارات المستعملة، كما ينشط بعضهم سياسيا في مجالات إرهابية.
المافيا اللبنانية
تنشط مكاتب تهريب البشر في لبنان تحديدا في مناطق الجنوب والبقاع والشمال اللبناني المحروم، وتقوم تجارتها على التغرير بالشباب اللبناني العاطل عن العمل والمعرض للموت بسبب النزاعات والحروب.
وحسب تصريح بعض اللبنانيين فان أبرز مكتب للتهريب هو في مدينة صور الجنوبية ويتقاضى هذا المكتب خمسة آلاف دولار على الشخص الواحد، ويتضمن هذا المبلغ تكاليف تزوير سمات العبور الى رومانيا وتشيكيا، كما يتضمن تكاليف الإقامة في الفندق.
وحسب إفادة لاجئين لبنانيين إلى ألمانيا فان المحطة الرئيسية الأولى لتجمع المتسللين هو أحد الفنادق المتواضعة في دمشق، حيث يتوافد على دفعات شبان من لبنان وعائلات سريانية وكردية وعراقية يقصدون ألمانيا والسويد.
ومن المعروف أن اللاجئين الأكراد تكون محطتهم المركزية ألمانيا بينما يتوجه اللاجئون السريان إلى السويد بسبب تسهيلات تقدمها هذه الدولة للكنيسة السريانية.
وينتقل اللاجئون من محطتهم المركزية في طريقين، الأولى عبر تركيا والثانية عبر رومانيا التي يسهل الحصول على سمة دخول اليها، ثم تقوم الشاحنات البرية بنقلهم على دفعات عبر رومانيا الى تشيكيا ومنها عبر الحدود إلى ألمانيا.
وتعتبر الحدود التشيكية الألمانية مكانا مناسبا لعبور المتسللين العرب ليلا بمساعدة دليل تشيكي أو فيتنامي يعرف جيدا مسالك العبور الجبلي والنهري، لكن كثيرا ما أدت هذه المسالك الى كوارث ذهب ضحيتها متسللون لا يتقنون السباحة لاقوا حتفهم أثناء عبور النهر أو متسللون قضوا بسبب برودة الطقس في فصل الشتاء، والبعض خسر بعض أطرافه بسبب الثلج والجليد.
أما العائلات اللبنانية الميسورة فهي تستفيد من محطة الترانزيت الجوي في باريس أثناء سفرها إلى دول «وهمية»، فتعمد إلى دخول فرنسا والتوزع في الدول الأوروبية.
وحسب الإحصاءات الرسمية فان عدد اللاجئين القادمين من لبنان إلى ألمانيا يبلغ خمسة وخمسين ألف لبناني، تسعى السلطات الألمانية حاليا لترحيل حوالي عشرة آلاف منهم صدرت قرارات ترحيل بحقهم.
والخطير في موضوع مافيا التهريب اللبنانية هو ضياع جوازات سفر اللبنانيين الذين يضطرون إلى تسليمها إلى المافيات الروسية والتشيكية قبل دخول أوروبا، وهذا الأمر لا يمنع من استخدام هذه الجوازات لاحقا في أمور مخالفة للقانون أو حتى تسهيل وصولها ربما إلى أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.
مصير مجهول
الى جانب مافيات التهريب المذكورة تنشط مافيات من جنسيات أخرى، أهمها التركية، العريقة تاريخيا في التسلل إلى أوروبا، كما المافيا اليوغوسلافية التي ازداد نشاطها وازدهر بسبب حرب البلقان، لكن السؤال الأساسي يبقى: إلى أين؟ وهل تستأهل «الجنة الأوروبية» هذا الجهد الكبير وغير الشرعي لدخولها؟ وهل تكفي الإجراءات الأوروبية الحدودية لمكافحة مافيات تهريب البشر؟ ثم أليست السياسة الأوروبية الخارجية مسؤولة إلى حد ما عن جحيم العالم الثالث بسبب دعمها لأنظمة دكتاتورية وتعسفية تنكل بمواطنيها؟ انها رحلة عذاب من موقع لا يطاق إلى مصير مجهول، لكن الأكيد هو فراغ الدول النامية من سكانها!