انتخابات الرئاسة الفرنسية في مهب الأزمة المالية المرشّحون عاجزون عن ترجيح الكفّة لمصلحتهم
يواجه الفريق الانتخابي الموالي للرئيس نيكولا ساركوزي معضلة شائكة، فقد بيّنت استطلاعات الرأي، التي أُجريت خلال الأسبوع الأخير، أن الاعتبارات الأمنية المرتبطة بهجمات تولوز الإرهابية، والتركيز المتعمّد على مخاطر «الإرهاب الإسلامي»، كان مفعولها محدوداً وآنياً. وكانت نعرات الإسلاموفوبيا، التي غذّتها عمليات الاعتقال المتوالية لأشخاص وصفوا بـ «المتطرفين الجهاديين»، قد أدت إلى ارتفاع شعبية ساركوزي بأربع نقاط. بذلك، حقق الرئيس الفرنسي تقدماً كبيراً بلغ ذروته في 27 آذار الماضي، حين وصلت شعبيته إلى 30 في المئة، مقابل 26 في المئة فقط للمرشح الاشتراكي فرنسوا هولاند. لكن الأمور سرعان ما عادت إلى التوازن تدريجياً، في منتصف نيسان الجاري، حيث تراجع ساركوزي إلى 27 في المئة، بينما عاد هولاند إلى التصدر بـ 29 في المئة. إلا أن الخبراء يعتبرون أن الكفة متعادلة بينهما، لأن هامش الخطأ في استطلاعات الرأي يقدر بـ 1,5 في المئة.
بات واضحاً الآن لكل الأفرقاء أن تلك «الموجة الأمنية» كانت مجرد موضة عابرة لم تدم سوى أسبوعين، لتعود بعدها الأزمة المالية لتحتل صدارة النقاش الانتخابي. كان فريق ساركوزي يأمل أن يعيد تكرار ما حدث في انتخابات عام 2002، حين أدت المشاكل الأمنية إلى إقصاء المرشح اليساري ليونيل جوسبان، منذ الدورة الأولى، ومرور المتطرف جان ماري لوبان إلى الدورة الثانية. لكن الأسلوب الفاقع الذي تمت به مسرحة عمليات الاعتقال في الأوساط السلفية الفرنسية، من وزير الداخلية كلود غيان، جعلت السحر ينقلب على الساحر، ولا سيما بعدما حدثت تسريبات مريبة كشفت بأن أسماء وعناوين «المتطرفين» الذين تعتزم الوزارة اعتقالهم كانت تُرسل إلى الصحافيين قبل ساعات طويلة، حرصاً على أن تكون الكاميرات حاضرة في لحظة الاعتقال!
بتلاشي «الموجة الأمنية»، عاد موضوع الأزمة المالية إلى الواجهة. وهو أمر كان الفريق الموالي لساركوزي يسعى إلى تفاديه، لأنه يحيل النقاش حتماً إلى حصيلة الولاية الرئاسية المنتهية، وما تخلّلها من هزات اقتصادية واجتماعية لا تشجع الناخبين الفرنسيين على التجديد لساركوزي. ومن اللافت أن المرشح الأكثر بروزاً منذ بداية الحملة الانتخابية هو مرشح «جبهة اليسار» جان لوك ميلانشون، الذي يعد الأكثر راديكالية في انتقاد الاستبلشمنت المالي المهيمن.
دخل ميلانشون الحملة في تشرين الأول الماضي بشعبية لم تكن تتجاوز الـ 5 في المئة. وكان يعد مجرد «مرشح ثانوي»، على غرار مرشحي اليسار المتطرف، الذي لا يخلو منهم استحقاق رئاسي فرنسي. لكنه أحدث المفاجأة في مطلع العام، حين اجتاز عتبة الـ 10 في المئة، ليبرهن بذلك أن لديه القدرة على استقطاب فئات جديدة من الناخبين، خارج الأوساط الموالية تقليدياً لليسار.
توقع البعض أن يكون بروز ميلانشون مجرد ظاهرة عابرة مرتبطة بالهزة التي رافقت تخفيض علامة فرنسا من الوكالات الائتمانية. لكن تقدّم مرشح اليسار استمر في التزايد، ما خوّله أن يفرض نفسه في موقع «الرجل الثالث» في المعترك الانتخابي، ولا سيما بعد التجمع الشعبي الحاشد الذي عقده في 18 آذار الماضي في ساحة الباستيل في باريس، داعياً إلى «دكّ قلاع النظام المالي المهيمن في فرنسا وأوروبا». بعدها مباشرةً، ارتفعت شعبية ميلانشون إلى 15 في المئة، ليتجاوز مرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبان، ومرشح الوسط، فرنسوا بايرو.
كانت لوبان قد عرفت أوج بروزها في مطلع السنة، حيث قاربت شعبيتها الـ 20 في المئة. لكنها بدأت بالتراجع، بدءاً من منتصف شباط، لتعود إلى النسب المعتادة تقليدياً لليمين المتطرف في عهد والدها جان ماري لوبان، أي حوالى 12 إلى 13 في المئة. وأسهم في تراجع مرشحة اليمين المتطرف بروز «رجل ثالث» بديل (مؤقتاً)، تمثل بفرنسوا بايرو، الذي قفزت شعبيته من 9 إلى 13 في المئة في نهاية كانون الثاني الماضي.
بروز بايرو كان مردّه لكونه أول من حذّر، منذ حملة الرئاسة عام 2007، من مخاطر تزايد الدين العام. لكن بايرو لم يصمد في موقع «الرجل الثالث» سوى 5 أسابيع. ثم بدأت شعبيته تتراجع إلى 12 في المئة، في نهاية آذار، غداة تفجيرات تولوز، ثم إلى أقل من 10 في المئة.
ساد الاعتقاد في البداية بأن الهزة التي أصابت بايرو ناجمة عن «الموجة الأمنية»، وتمسك أنصاره بالأمل في إمكانية تعافيه، كما حدث في الأسبوع الأخير مع الاشتراكي هولاند. لكن الاستطلاعات الأخيرة أثبتت العكس. فقد استقطب بايرو اهتمام الناخبين بوصفه أول من لفت إلى مخاطر أزمة المديونية، لكن الحلول التي قدّمها، خلال الأسابيع الماضية، لمعالجة الأزمة ركّزت على «مصارحة الفرنسيين بضرورة التقشف وخفض الإنفاق العام، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لتجاوز الأزمة». لكن المفعول جاء عكسياً، حيث انفضّ الناخبون عن بايرو، وفضلوا الالتفات إلى مرشح «جبهة اليسار» ميلانشون، الذي يحمل خطاباً مطمئناً للقطاعات الأوسع من الناخبين، وينادي بأن «يدفع ضريبة الأزمة الذين تسببوا بها، أي الأثرياء ورجال الأعمال والمضاربون في البورصة، وليس عموم الشعب».
وبعدما سحب ميلانشون إلى صفه الفئات الشعبية المؤيدة عادة لليمين المتطرف، والطبقات المتوسطة الموالية لأحزاب الوسط، بدأ يشكل خطراً على المرشحين الرئيسيين ساركوزي وهولاند. وتُرجم ذلك بوضوح، خلال التجمعات الانتخابية التي نُظمت أول من أمس. فقد كانت الأنظار مشدودة إلى باريس، حيث عقد ساركوزي تجمعاً في ساحة الكونكورد، بينما دعا هولاند إلى تجمع مماثل في باحة قصر فانسان. وتوقع المراقبون أن يكون تزامن الحدثين مناسبة لقياس ميزان القوى بينهما، لمعرفة أيهما الأكثر قدرة على الاستقطاب في الأيام الأخيرة من هذه الحملة. لكن ميلانشون سرق منهما الأضواء، حيث نظم تجمعاً شعبياً هو الأضخم في هذه الحملة، في ساحة الباردو في مارسيليا، استقطب أكثر من 120 ألف شخص!
«صانع الملوك»: خطر على ساركوزي أم هولاند؟
جرت العادة أن يُوصف المرشح الذي يحل في المنزلة الثالثة في استحقاقات الرئاسة الفرنسية بـ«صانع الملوك»، لأنه هو الذي يمتلك القدرة على ترجيح الكفة بين المرشحين المؤهلين للدورة الثانية. لكن الخبراء يخشون ألا تقتصر تأثيرات ميلانشون (الصورة) على الدورة الثانية، حيث تهدّد وتيرة التقدّم المتسارعة التي تشهدها شعبيته بقلب الطاولة على المرشحين الرئيسيين منذ الدورة الأولى، التي ستجرى هذا الأحد.
أنصار اليسار يأملون أن يؤدي استمرار صعود ميلانشون في الأيام المقبلة إلى إطلاق رصاصة الرحمة على ساركوزي، سواء بإقصائه رسمياً لحساب مرشح يميني آخر (بايرو أو لوبان)، أو بتوجيه ضربة موجعة لشعبيته، لخفض نتيجته في الدورة الأولى إلى مستوى لن يترك له أي فرصة فعلية في التعافي لتحقيق الفوز في الدورة الثانية.
لكن بعض المحللين بدأوا يتوجّسون من مفعول عكسي، حيث يُخشى أن يفرز تزايد صعود ميلانشون في الأيام الأخيرة من هذه الحملة مفعولاً عسكرياً قد يقوِّض شعبية المرشح الاشتراكي هولاند، ويتسبب في إقصائه منذ الدورة الأولى، كما حدث مع سلفه جوسبان عام 2002!