وثيقة جنيف: طعنة في الخاصرة!

في مناخ انتعاش سياسات الانكفاء والانحناء عربيا بعد إحتلال العراق، وفي ظل الهبوط النسبي المرحلي لفعاليات الانتفاضة الجماهيرية والمقاومة المسلحة في فلسطين المحتلة، أتى تخلي أوساط قيادية فلسطينية في «وثيقة جنيف» عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي أخرجوا منها (وفق اشتراط القرار الدولي 194 الذي تم بموجبه قبول الكيان الصهيوني عضوا في الأمم المتحدة) أتى ليشكل طعنة جديدة في الظهر لما يقارب القرن من الصمود الشعبي الأسطوري في وجه المشروع الصهيوني ولقوافل الشهداء الفلسطينيين والعرب.

فإذا كان من أغرب الغرائب أن ُيقبل الكيان الصهيوني في الأمم المتحدة قبل تنفيذ الاشتراط المذكور، وأن يستمر قبوله في عضويتها رغم رفضه اللاحق المعلن لهذا الاشتراط، فالأغرب من هذا الأغرب أن يتبرع المشروط له (الضحية) بالتنازل عن الاشتراط (الدولي) إلى المشروط عليه (المجرم)، هذا طبعا إذا افترضنا أن الذين تنازلوا في جنيف يمثلون الضحية فعلا، وهم ليسوا كذلك بالطبع بدليل الرفض الفلسطيني الشعبي والسياسي الواسع لفعلتهم الشنعاء وتصاعد الحملة الجماهيرية في مخيمات اللجوء داخل وخارج الأرض المحتلة للتأكيد على تمسك اللاجئين، جيلا وراء جيل، بحق العودة إلى الديار غير القابل للتصرف أو المساومة.

مع ذلك تقضي الأمانة الاعتراف بأن الحركة الصهيونية قد نجحت، عبر نشاط جناحها «اللطيف» «المعتدل» «السلمي» المسمى دجلا بالـ«ـيسار» ممثلا بيوسي بيلين، في إحداث شرخ هام في جدار التمسك الفلسطيني بحق العودة،  ما قد ينجم عنه بالتالي إضعاف ما تبقى من الالتزام الرسمي العربي بهذا الحق وعزل أي موقف دولي مساند لهذا الحق راهنا أو مستقبلا، فالقاضي راضي (والمسامح كريم !) وهاهي أول وثيقة رسمية وعلنية (بل واحتفالية!) يتخلى فيها «طرف فلسطيني» شبه رسمي عن حق العودة و يقبل بتوطين اللاجئين ضمن الجغرافيا العربية، أو «إستيعابـ»هم في صقيع المنافي البعيدة. يشكل هذا نقلة خطيرة في مسار التنازل التاريخي المطلوب من القيادة الفلسطينية «التاريخية» التي لم تكن بالطبع بعيدة عما جرى في جنيف، وسيعمل الصهاينة أسيادهم وأتباعهم ولاشك على توسيع وتعميق هذا الشرخ ليبقى هو في خاتمة المطاف البند الوحيد القابل للتطبيق من «وثيقة جنيف» المشؤومة، إضافة طبعا إلى كسر مرجعية القرارات الدولية وحدود 4 حزيران (تحت عنوان «تبادل الأراضي»)، وكذلك ما يتعلق في «الوثيقة» بنبذ ومحاربة «الإرهاب» أي المقاومة الفلسطينية الباسلة. أما البنود التجميلية من «الوثيقة» فالجناح الآخر الأقل «لطفا» من الحركة الصهيونية، جناح جابوتنسكي بزعامة شارون، يتولى بدوره دفنها بجنازير المدرعات والجرافات وتحت أساسات المستوطنات، أو تمزيقها بالجدار الذي أطلق عليه فلسطينيا وعربيا اسم ملطف: جدار «العزل العنصري» (ما يوحي بعزل عنصرين متكافئين عن بعضهما البعض)، وما ينقص هذه التسمية برأينا لتستقيم و تعبر عن حقيقة ما يجري بناؤه حرف واحد فقط هو الميم لتصبح: جدار «المعزل العنصري» السجن الكبير العازل لعنصر واحد منهما، أو (البانتوستان) بقاموس التوأم العنصري البائد في جنوب أفريقيا. 

بتنازل طرفها الفلسطيني عن حق العودة، فإن «الوثيقة» لا تكتفي بمنح الشرعية التاريخية لجريمة اغتصاب فلسطين وتشريد أهلها وإقامة الكيان الصهيوني على أرضها فحسب، بل وتقر أيضا بـ«حق» هذا الكيان في أن يواصل عنصريته المتخلفة في المستقبل للمحافظة على «طابعه اليهودي» دون إزعاج، وليستمر في استجلاب المتحدرين من ديانة ما من أقاصي الأرض إلى فلسطين بدعوى أن «أسلافهم» كانوا قد عاشوا بها قبل عشرات القرون، أما من أخرجوا منها عنوة واحتلت بيوتهم وحقولهم و زيتونهم وكرومهم وبياراتهم قبل نصف قرن فقط أمام سمع وبصر وتوثيق العالم المعاصر ممثلا بالأمم المتحدة ووكالتها (الأونروا)، فلا يملكون حقا مماثلا (على الأقل !) لأنهم ليسوا من «شعب الله المختار» المزعوم. 

«وثيقة جنيف» -بهذا المعنى- إقرار بوجاهة الفكر الصهيوني المتخلف، و بحق العنصرية عموما في الوجود في عالم اليوم، أو على الأقل بحق الصهيونية في أن تستثنى من قاعدة تصفية العنصرية !. تقف «الوثيقة» بذلك موضوعيا في الصف المعاكس لتقدم البشرية، صف الرجعية العنصرية-الدينية الخارجة من كهوف التاريخ الملتبس المزيف. بل إنها، إذ تزعم التصدي لقضايا «الحل النهائي» و«المصالحة» بين المجرم و الضحية، فهي في الحقيقة عامل مثبط للحل القابل للحياة، الحل القائم على تحول جدي في قابل الزمان (ممكن، نظريا على الأقل، ومرغوب على أي حال) داخل التجمع اليهودي في فلسطين المحتلة (بما هم أيضا ضحايا من نوع آخر- «موارد بشرية»- للصهيونية والإمبريالية)، تحول نحو التطهر من عقدة التفوق العنصري ونبذ الصهيونية المجرمة ورفض دور القاعدة الإمبريالية الأمامية المدججة بالسلاح، أي نحو الخيار السلمي الحقيقي القائم على إحقاق الحقوق وليس إنكارها أو الالتفاف عليها. فالجواب البديهي داخل الكيان على أي دعوة لتحول من هذا النوع سيكون من قبيل: ولماذا نفعل ذلك و«هم» موافقون على إغلاق الملف مع بقائهم حيث هم وبقائنا على ما نحن عليه ؟ «هم» أقروا بدونيتهم تجاهنا وانتهى الأمر!

بالعودة إلى تجربة جنوب أفريقيا، ترى هل كان بالإمكان الوصول إلى المصالحة هناك، التي قطعت بالفعل شوطا هاما، لولا التوافق أولا وقبل أي شيء آخر على اجتثاث النظام العنصري؟ وهل كان الأفارقة والملونون سيقبلون بالمصالحة دون ذلك ؟ بل هل كانوا توصلوا أصلا إلى إحقاق حقهم لو كانوا قد تنازلوا عنه وقبلوا «الحق» العنصري،  و أقبلوا من ثم على تسيير شؤون «بانتوستان» القمع الذاتي مع تجميله بإسم «دولة» ؟

إن التنازل عن حق العودة يعادل تماما إقرار «الحق» العنصري. «وثيقة جنيف» إذن طعنة صهيونية مسمومة، بأيد عربية، ليس فقط للنضال الوطني-القومي لشعب فلسطين الشجاع وباقي السوريين والأمة العربية، بل لكل التراث البشري التقدمي المناهض للعنصرية، لكل الشعوب المقهورة المستباحة. إنها حجر عثرة على طريق الشعوب نحو تصفية العنصرية ودفن أشلائها النتنة وفتح آفاق الإخاء الإنساني بين كل البشر. ولأنها كذلك فلا مستقبل لها سوى مزبلة التاريخ هي والبانتوستان الفلسطيني («الرؤية» التي أتت الإمبراطور بوش الصغير في أحلامه!) والكيان العنصري المسمى «دولة إسرائيل» والحركة العنصرية الأخطر والأكثر تخلفا في التاريخ البشري التي تقف وراء هذا كله وتحظى برعاية لا محدودة من طرف الإمبريالية العالمية (الذاهبة بدورها إلى نفس المزبلة). لا يغرن أحدا الانتصارات المؤقتة أو الإنكسارات المؤقتة، فهذا زمان لا كما يتخيلون، وسيرى الذين ظلموا أي منقلب سوف ينقلبون.

 

■ بشير يوسف