النفط في الزمن الثوري

هل سوف تقتصر الثورات العربية على الأنظمة الاستبدادية المتحدرة من حركة التحرر الوطني؟ وهل سوف تنجو أنظمة الاستبداد السلالية النفطية من موجة التغيير العارمة التي تعصف بالمنطقة؟

من يراقب سلوك تلك الانظمة لا بد له أن يلاحظ أن جوابها على السؤالين يتجه وجهة تغليبها الأدوار الخارجية وسيلة رئيسة لدرء ترددات الانتفاضات الشعبية على أوضاعها الداخلية.
مع ذلك، لم تنجح السعودية وقطر، وهما النظامان الاكثر حضوراً في السياسات الإقليمية، في السيطرة على مجالهما الحيوي بعد. يتجدد الاحتجاج في البحرين حيث تتصاعد وتيرته وحدّة الصدامات بين الشرطة والمتظاهرين فيما تتجذر الشعارات التي باتت تنادي بالملكية الدستورية بل بإسقاط النظام. الأزمة مفتوحة على مصراعيها. وقد تقصدت «المبادرة الخليجية » تجاهل مشكلات وحركات احتجاج رئيسية مثل الحركة الحوثية، والحراك الجنوبي، وانهيار مركزية صنعاء ومعالجة المطالب الشبابية بنظام سياسي جديد قائم على الديمقراطية والدولة المدنية والشفافية. بل عجزت المبادرة، المرعية أميركيا وسعوديا، حتى عن تأمين إخراج علي عبدالله صالح من السياسة ومن البلاد، على الرغم من إعفائه من المحاسبة هو وبطانته. وتتميز التحركات لتفكيك النظام بظاهرة غير مسبوقة هي الاضرابات والاعتصامات التي ينظمها آلاف العسكريين الذين يطالبون بإقالة رؤسائهم من قادة البحرية والطيران والاسلحة الاخرى من أقارب الرئيس المخلوع وأنصاره. هذا حتى لا ننسى الانتشار الدموي اللافت لعمليات تنظيم القاعدة في المحافظات الجنوبية.
ولعل السؤال المرافق هو: هل أن سعودة وقطرنة الحركات الإسلامية في تونس ومصر وسورية يعفي تلك الدول من مفاعيل التغيير في عقر دورها؟
إذا قصرنا الأمر على أكبر تلك الدول، العربية السعودية، نلاحظ أن العوامل ذاتها التي دفعت جماهير البلدان العربية الاخرى إلى الحراك والثورة ـ البطالة والقمع والفساد ـ متوافرة في المملكة.
لقائل يقول إن هذه الأقطار النفطية، أغنى بلدان العالم من حيث الدخل الفردي ذات الإنفاق الحكومي الواسع، قادرة على إرضاء أوسع الفئات المتذمرة بين شعوبها. الحقيقة أن الحاجة إلى التغيير لا تنمو من الحرمان فقط. الأمر المؤكد أن نمو الاقتصاديات والثروات النفطوغازية قد خلق مشكلات جديدة بقدر ما رفع تطلعات الناس إلى تحسين أوضاعهم المعيشية وزاد من المطالبة بالحقوق لا العكس.
في العربية السعودية، تصل معدلات البطالة إلى ٣٥٪ بين الشباب في سن العشرينيات. علما أن ٦٠٪ من السكان دون الحادية والعشرين من العمر، وهو من أعلى المعدلات بين الدول العربية. صحيح أنه يجري تطبيق سياسة السعودة منذ سنوات التي تلزم الشركات بتوظيف ٣٠٪ من عمالها والموظفين من السعوديين. وقد أضيف إليها، عقب الانتفاضات العربية، الإعلان عن مشاريع طموحة بخلق ثلاثة ملايين وظيفة خلال ثلاث سنوات. من المبكر تقييم التطبيق والنتائج في الحالتين.
مهما يكن، إلى ما تحمله البطالة للشباب من انسداد آفاق المستقبل، تنضاف أشكال العزل والقمع والضبط الاجتماعي المميزة للنظام السعودي والتي تطبق على حياتهم وحرياتهم بل وتحصي عليهم الأنفاس. يتصاعد الغضب على مطاوعة «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر » لتدخلهم الفظ في حياة الناس الشخصية، ما اضطر الملك إلى استبدال رئيس الهيئة برئيس جديد يقال إنه «اصلاحي».
عزل النساء ومنع الاختلاط بين الجنسين لا يزالان على حالهما. وكذلك منعهن من قيادة السيارات. وقد حرمت النساء من الاقتراع في الانتخابات البلدية بحجة أن مراكز الاقتراع ليست مجهزة بمعازل للجنسين. والعزل مستمر في أماكن العمل، حيث تحجز العاملات في غرف خاصة بهن مع ان نسبة عمالة النساء تتزايد على نحو ملحوظ.
من جهة ثانية، تزايدت انتهاكات حقوق الإنسان على امتداد السنة الماضية. مدوّن اضطر إلى الفرار من البلاد بسبب تكفيره. تسعى الحكومة لاستعادته حيث يتهدد الخطر حياته. وتطالب منظمة العفو الدولية بإطلاق سراح ستة محتجزين من دون محاكمة منذ سنة لنيتهم الاحتجاج ـ مجرد النية ! ـ في تظاهرة لم تقم يوم ١١ مارس ٢٠١١. وقد اعتقل ثلاثة مخرجين سينمائيين سعوديين لأنهم تجرؤوا على إخراج فيلم عن الفقر في المملكة. وزاد من انكشاف وجود فقر مقيم في الجنة النفطية إعلان لمواطن سعودي فقير عن استعداده بيع أحد أطفاله على الفايسبوك ليمكنه إعالة الباقين.
وحُجِب موقع على الانترنت لنشره أخبارا عن القمع في المنطقة الشرقية في العوامية والقطيف. أكثر من إضراب طلابي بسبب سوء الخدمات في المدارس أو اضراب عن الطعام للاحتجاج على احتجاز ناشط حقوقي (محمد البجادي) معتقل لكشفه مقتل المقيم اليمني سلطان عبده دعيس تحت التعذيب في معتقل المباحث العامة في القصيم.
شباب يهزؤون من الدعاية الرسمية ضد القمع في سورية وممارسة الأمر ذاته داخل المملكة، في المقابل فإن ولي العهد الامير نايف، ورجل المملكة القوي، يستخدم تكتيكات النظام السوري في منع السفر او في إلقاء تهمة «الارهاب» على كل معارض ويهدد بالضرب بالقبضة الحديد.
من الشعارات على الجدران في القطيف حيث حصد القمع السلطوي أربعة قتلى إلى الان: «أين أموال النفط»؟ هذا هو السؤال الجديد الذي يطرحه السعوديون الآن.
وهذه بعض الأجوبة: يتقاضى كل أمير من العشرين ألف أمير وأميرة الذين يشكلون الأسرة الحاكمة (على ٢٥ مليونا من السكان) علاوة معدلها الوسطي ١٢٠ ألف دولار شهريا. على أن التوزيع هنا ليس متكافئا البتة. فقد كشفت وكالة ويكيليكس معلومات من الأسرة المالكة ذاتها تفيد أن عائدات مليون برميل من النفط يوميا يستحوذ عليها الأمراء الخمسة والستة الكبار، أي أن دخلهم المشترك يوازي ١٠٠ و١٢٠ مليون دولار، حسب سعر البرميل، علما أن المملكة تنتج قرابة عشرة ملايين برميل يوميا.
إلى هذا يجب ان تضاف الأعداد الفلكية من البترودولارات التي يعاد تدويرها إلى العواصم الاوروبية والاميركية عن طريق الإيداع في المصارف وتمويل مديونية الدول الاوروبية والأميركية وإسناد عملاتها المتقلقلة، بشراء سندات الخزينة، والاستثمار العقاري، عدا عن التوظيفات في الشركات المختلفة، الخ. هذا عندما لا تستعاد أشطار كبيرة من تلك البترودولارات عن طريق تمويل الحروب الخليجية وصفقات السلاح المليارية - وآخرها صفقة الطائرات الاميركية بقيمة ٦٠ مليار دولار - والاستيراد الاستهلاكي الفاحش.
على أن الجديد في زمن الثورات أن الثروة النفطية باتت في صلب البحث في فساد الحكام ـ وكلهم رجال أعمال ـ وهو ارتفاع مطلب السيطرة الشعبية على الثروات والموارد الطبيعية، وعلى طرائق توزيعها والصناديق السيادية المرتبطة بها. ولعل الاهم أن الثروات النفطية - وفقاعتها المالية - صارت شأنا مشتركا لشعوب المنطقة، على نحو جديد، لأن هذه الأموال المعولمة تتدخل الآن بألف شكل وشكل في كل بلد عربي حيث تتجه أنماط توظيفاتها الاقتصادية والريعية والسياسية في الاتجاه النقيض لتوفير العمل والخبز والحرية لشعوبها، بل إن أموال النفط تشكل الآن السلاح الفتاك لتحوير الثورات عن مساراتها الديمقراطية والتنموية وتغليب حركات الردة الاسلامية والسلفية ناهيك عن الجهادية عليها.