يوغوسلافيا: البلد الذي لم يعد أحدٌ يتحدث عنه.. الصندوق الدولي يطالب بتسريح ثلثي العمال في صربيا! القهوة.. أصبحت من الكماليات والدواء بات حلماً!، وانخفض مستوى المعيشة بمقدار 150%!

أين أصبحت يوغوسلافيا بعد عامين؟ انفجار الأسعار، التسريحات، حالات السرطان، حالات الانتحار. ورفض حكومة صندوق النقد الدولي. ميشيل كولون (تشرين الثاني 2002) لماذا لم يعد أحدٌ يحدّثكم عن يوغوسلافيا؟ هناك الكثير من الأمور المثيرة للاهتمام تجري هناك..

مافيا و تطهير عرقي بالرغم من 40 ألف جندي أطلسي!

قبل النظام الجديد، انفجر سعر الخبز واللحوم والكهرباء. وانفجر كذلك عدد الانتحارات. تماماً مثل الإضرابات. لكن القاصرين في كولوبورا، الذين ساعدوا على الإطاحة بميلوسيفيتش، هم حالياً متهمون بـ «الابتزاز» الذي يمارسه رئيس الوزراء دجندجيتش الذي هبطت شعبيته إلى 8%. في هذه الأثناء، وهذا هو السبب المعلن للقصف، تعيش كوسوفو في رعبٍ من المافيا، والتطهير العرقي لجميع الجنسيات على الرغم من (أو بسبب؟) وجود 40 ألف جندي من حلف شمالي الأطلسي.

مستعمرة البؤس واجهةً للعولمة!

 أهلاً بكم في يوغوسلافيا، التي أصبحت مستعمرةً جديدة وواجهةً للعولمة. إنّه تحذيرٌ هام بالنسبة لجميع البلدان التي تستعد الولايات المتحدة الأمريكية لـ «الاستيلاء» عليها. وتجربةٌ مثيرة للاهتمام بالنسبة لجميع أولئك الذين ساندوا حرب حلف شمالي الأطلسي في العام 1999. ألا يتوجّب عليهم أن يتساءلوا: لماذا يرفض معظم الصرب الاقتراع؟ ارتفع سعر الخبز من 4 دنانير إلى 30 ديناراً في عامٍ واحد. وسعر الكيلوغرام الواحد من لحم الخنزير من 180 إلى 260 ديناراً (كان سعره 60 ديناراً أثناء حكم ميلوسيفيتش). والبطاطا من 7 إلى 12 ديناراً، والسكر من 25 إلى 50 ديناراً، وليتر الزيت من 36 إلى 70 ديناراً. وبالمقارنة مع فترة ميلوسيفيتش، تصبح الفروقات أكبر حجماً. ارتفع سعر المتر المكعب من الغاز من 3 إلى 11.20 دينار. لم تعد 170 ألف عائلة في بلغراد قادرة على دفع ثمن الكهرباء التي تضاعف سعرها خلال أربعة أشهر بطلبٍ من صندوق النقد الدولي، وأعلن عن ارتفاع أثمان سلعٍ أخرى. لقد أصبحت هذه العائلات محرومةً إذاً من التدفئة المركزية هذا الشتاء. «يستحيل على فرنسيين العيش بهذا المقدار الضئيل من المال»، يقول دومينيك، العائد من بلغراد: «أصدقائي القدامى، وهم من المثقفين في بلغراد، يشترون موزةً أو علبة لبن  واحدة فقط»، إذ أنّهم لا يستطيعون دفع ثمن ما هو أكثر من ذلك. لم تعد القهوة تباع في أكياس سعة نصف كيلوغرام، بل بسعة مئة غرام فقط. لكنهم لم يعودوا يشربونها، لقد أصبحت كمالية. يقولون لي: «نعم، لا بأس، نحن نتدبّر أمورنا»، لكنّهم خسروا عشرة كيلوغرامات من وزنهم. كانت الوجبة تتألف من علبة سردين لثلاثة أشخاص، مع بعض الفلفل الأحمر والخبز...

تدهور خطير للوضع المعيشي الصحي و البيئي!

 ولم يعد أحدٌ يحصي عدد حالات الانتحار بين المسنين الذين لم يعودوا قادرين على شراء أدويتهم. وتقول لنا سينكا، وهي ربّة منزل من جاغودينا، والقلق يسيطر على نبرتها: «ماذا أفعل صباحاً حين يطالبني طفلي قائلاً: «أريد خبزاً يا أمي! حليباً!» ولا يكون لدّي شيءٌ أعطيه إياه؟». وتشرح صديقتها الفرنسية قائلةً: لم يعد لدى أحدٍ ما يشتري به. العديد من الناس ليس لهم عمل ولم يعد لديهم أية مساعدات اجتماعية. إنّهم يستمرون في العيش بفضل تدبير الأحوال، من نمط: «أصلح لك سيارتك وتعطيني ثلاثة كيلوغرامات من البطاطا أو بعض الزيت». معظم العائلات لديها أقارب في الريف، مما يساعدهم على تناول الطعام. وإلاّ لما صمدوا. منذ فترةٍ وجيزة، أجرى مناضلون في حزب العمل، الذي تأسس مؤخراً، تحقيقاً صغيراً: «في ثلاث مدنٍ عمالية متوسطة الحجم، قال لنا 85% من الناس إنّ مستوى حياتهم قد انخفض بمقدار 150%!». الوضع الصحي مأساوي هو الآخر. لقد عانى اليوغوسلاف كثيراً في الماضي من الحرمان بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة في العام 1991. ثمّ عانوا من حالات التلوّث الخطيرة التي حصلت حين قصف حلف شمالي الأطلسي - الناتو - مجمّع بانتشيفو الكيماوي، منتهكاً قوانين الحرب. الأحوال لم تتحسّن مع السقوط الدراماتيكي لمستوى الحياة، وبالتالي للتغذية. ولتتويج ذلك كلّه، تثير الخصخصة ما تثيره من مصائب: وداعاً للأدوية رخيصة الثمن من صيدليات الدولة، فلم يعد لها وجود تقريباً. كبديلٍ لذلك، ينبغي أن تكون محفظة نقودك عامرةً لدفع ثمن تلك الأدوية في الصيدليات الخاصة. ثمن 30 محفظة (كبسولة) من أحد مضادات السرطان 60 يورو: وهو مبلغٌ يعادل تقريباً الراتب الشهري للعامل العادي. وفق صحيفة نوفوستي، فإنّ 4900 امرأة في بلغراد مصابة بالسرطان، لكنّهنّ محروماتٍ من الحصول على الأدوية. كما نلاحظ تزايداً قوياً في حالات الإصابة بالسرطان، وخاصة سرطان الرئة. وقد اعترف وزير الصحة بالظاهرة، ولكن لم تجرَ أيّة دراسة في هذا الصدد. ربما تستفحل مشكلة الصحة قريباً: فقد أظهر إحصاءٌ جديد زيادةً بمعدّل 30% في الوفيات خلال ثلاث سنوات . وهذه الزيادة تمسّ كافة الفئات العمرية، بما فيها الأطفال. 

أين الوعود الغربية بالإزدهار؟!

بعد وفاة والد صديقة لي من بلغراد، اضطرت عائلته إلى «الانتظار عدة أسابيع قبل دفنه، لأننا لم نجد مكاناً في المقابر التي أصبحت صغيرة»، تقول 

تلك الصديقة بمرارة. ماذا حلّ بوعود العام 2000 ؟ يا له من تناقض مع الوعود الانتخابية لشهر تشرين الأول 2000 التي قدّمتها الأحزاب المناصرة للغرب! لو صدّقنا تلك الأحزاب، فإنّ الازدهار كان في انتظار كلّ صربي، ويكفي التحوّل باتجاه الغرب... في تلك الفترة، وتحت عنوان «هل سيفي كوستونيكا، دجندجيتش وواشنطن بوعودهم؟» كتبنا نقول: يهيمن حالياً على الشبيبة اليوغوسلافية وهمٌ كبير، إذ أنّها هي التي تقتات أكثر من غيرها على أوهامها تجاه وعود الغرب. الوهم الكبير هو أن يعتقد المرء أنّه بقبول إرادة الشركات متعددة الجنسية والقادة الغربيين، سوف يأتي الازدهار ليكافئ الشعب اليوغوسلافي. ويبقى السؤال الحاسم: ما هي قيمة وعود الولايات المتحدة وحلفائها؟ بعد أن سال لعاب بلدانٍ مثل روسيا وبلغاريا وألبانيا لوعود الازدهار التي قدّمت لها في العام 1989، فإنّها ركعت أمام الرأسمالية الغربية. هل تعيش شعوبها اليوم بصورةٍ أفضل؟ لقد أجابت الوقائع. في بلغراد كذلك، أجابت الوقائع منذ عامين. 

خصخصة بالقوة..لكن المقاومة أقوى!

 

إنّ العولمة المصنوعة في الولايات المتحدة والمصنوعة في بروكسل تفقر الشعوب. «المستثمرون الغربيون» كما يقولون هم الذين فرضوا إلغاء السيطرة على الأسعار، وقد حصلوا على بغيتهم. صندوق النقد الدولي: «ينبغي تسريح 800 ألف عامل على الأقل» هل يمكن أن يتحسّن المستوى الحياتي والصحي في السنوات القادمة؟ ينبغي ألاّ نتوقّع ذلك، فالبطالة سوف تتصاعد بصورةٍ مأساوية: «ينبغي تسريح 800 ألف عامل صربي على الأقل من الوظائف والمؤسسات الحكومية»، هذا ما يفترضه آرفو كودّو، أحد مسؤولي البنك الدولي. وينصح الحكومة بالتدرّج في تنفيذ الأمر، والإعداد لصرف تعويضات لتجنّب «وضعٍ اجتماعي منفجر» في واقع الأمر، ليس هناك جديد من جهة البنك الدولي. فمنذ العام 1989، طالب بإعلان إفلاس 2435 مؤسسة يوغوسلافية وبتسريح العاملين بأعدادٍ كبيرة (ثلثي العمال في صربيا). وقد دفعت تلك المطالب الغربية في حينه قادة الجمهوريات المختلفة للهروب إلى الأمام عبر المزاودات القومية. وأطلقت أولى رصاصات الحرب على يد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. بعد عشر سنوات، وبفضل قنابل حلف الناتو، بدأت الخصخصة بالفعل. وأصبحت خمس مؤسسات حكومية هدفاً لحكومة دجندجيتش، لكن المقاومة قوية، كما هي الحال مثلاً لدى العاملين في مؤسسة كارنكس للصناعات الغذائية، والذين يبلغ عددهم 36 ألف عامل. ففي حزيران، اكتشف أولئك العمال أنّ صندوقهم الاجتماعي فارغ، فلم يعد للعامل المريض الحق في أيّ تعويض. أين ذهب المال؟ «ليس لدينا أية فكرة»، تجيب الحكومة التي ترفض مساعدة أولئك العمال وتحاول فرض الخصخصة عليهم. «مستحيل»، أجاب العمال. وقرروا بيع منتجاتهم في المخازن الكبيرة مباشرة، وليس عن طريق الحكومة التي تستولي على 50% من الأرباح. «حين نسلّم البضائع، تعطوننا جزءاً من المال فقط، ومتأخرين. لكن ليس بنا حاجةٌ لرؤوس الأموال الأجنبية كي تنقذنا، إذ أننا نصدّر إلى 24 بلداً. سوف نستغني عنكم». مقاومة الخصخصة يحاول هؤلاء العمال الحفاظ على نظام الإدارة الذاتية لديهم. كما نرى ذلك في نجاح مبادرة النقابة الجديدة (المعارضة) نحو المستقبل التي عرضت على العمال أن يؤسسوا صندوقاً اجتماعياً بأنفسهم، وأن يعملوا أربعة أيام سبت في الشهر لتمويله. المشاكل متماثلة عند الأربعة «الكبار» الآخرين: زاستافا (للسيارات)، سميديريفو (للتعدين)، غوسا (للبناء)، وستارتيد 13 للتعدين. في المؤسسة الأخيرة، تمّ تسليم 150 ألف طن من الفولاذ أنتجت خلال ثلاثة أشهر، لكن الحكومة، التي خفضت الرواتب إلى النصف، لم تدفع ثمنها. الصندوق خالٍ إذاً. في شهر حزيران، زار رئيس الوزراء دجندجيتش المصنع وعرض استعادة المال عبر الخصخصة، غير أنّ تلك المناورة رفضت وجرى إضرابٌ دام 48 ساعة. في الواقع، بقيت المصانع الخمسة الأكبر في البلاد وفيّةً للإدارة الذاتية، ورفضت أن تجري خصخصتها وبيعها بسعرٍ رخيص للشركات الأجنبية متعددة الجنسيات. هناك مصالح ألمانية تضع عينها على شركة غوسا، في حين تلاحق بيجو شركة زاستافا. قبيل الانتخابات، وبعد أن سرّحت نصف العمال الذين يبلغ عددهم 30 ألف عامل، لوّحت الحكومة من جديد بوعودٍ خلاّبة. وكما لو أنّ الأمر مجرّد مصادفة، أعلنت أنّ المصنع سوف يشتريه مستثمر أمريكي متميّز يعد بإعادة إطلاق الإنتاج. حتى 220 ألف سيارة سنوياً! هذا مجرد افتراض، في الوقت الذي تنتج فيه صناعة السيارات الرأسمالية العالمية 70 مليون سيارة سنوياً، لكنّها تتمكن من بيع 50 مليون منها فقط، بسبب أزمة الإنتاج الفائض. إذا سرّح العاملون وأفقر الزبائن المحتملون، فلمن سيتمّ البيع؟ في مواجهة جميع هذه الوعود، حلّت الريبة محلّ الأوهام السابقة: «الحكومة لا تشغل بالها بالناس، بل بجيوبها». هل الفائدة الأساسية من الخصخصة ملء هذه الجيوب؟ بعض الأمثلة يؤكّد ذلك. بعد أن تمّ بيع نصف شركة الاتصالات، وقعت شبكة موبيل 063 بين أيدي الأخوة كاريك. ويتساءل الجميع من أين أتوا بالمال اللازم لإنشاء شبكة في جميع أنحاء صربيا. وكذلك الأمر بالنسبة للأموال اللازمة لتمويل تلفزيون BK الذي يعرض أفضل البرامج في البلاد. الأخوة كاريك قريبون للغاية من دجندجيتش. أما بالنسبة لشبكة 064، فآخر من اشتراها رؤوس أموال ألمانية، في حين جرى بيع مشغّلٍ جديد إلى بريتيش تيليكوم.