يسار در... نظم صفوفك... أمام سر!

المعلوم أنه في ظروف الصراع المكشوف مع عدو خارجي، فإن كفاءة القيادة الوطنية في إدارة الصراع وقدرة ذراع البلاد المسلح على تأدية المهام القتالية في سياق هذا الصراع، لا تستندان فقط إلى عناصر القوة أو الضعف الذاتي للقيادة و القوات بل أيضا إلى جملة عوامل فكرية، سياسية، إقتصادية، إدارية-تنظيمية، إجتماعية، ثقافية ونفسية، تمثل بمجملها العمق الداخلي في المواجهة، الجبهة الداخلية، كما تسمى. فإذا كان الداخل صلبا كان عود الوطن صلبا، والعكس بالعكس. و قد أثبتت مأساة العراق ذلك من جديد.

زمن حروب الفرنجة لم تكن الحدود بين الدول هي جبهات القتال بينها، بل القلاع و الطرق المفضية إليها. بعض هذه القلاع كان حصينا بطريقة تجعل من شبه المستحيل على المهاجمين إقتحام أسوارها. من هنا قال استراتيجيو ذاك الزمان: «القلعة الحصينة لا تؤخذ إلا من الداخل»، أي من الجبهة الداخلية. فلشن الهجوم بنجاح على القلعة، يتوجب، قبل التمهيد بالمجانيق، التمهيد الأطول والأدق بالعمل على إضعاف الجبهة الداخلية.

كيف هزم المعسكر الإشتراكي السابق، القلعة الحصينة عسكريا، في ما دعي بالحرب الباردة؟ لقد أُخِذ من الداخل دونما قتال بعد أن تم التمهيد لذلك على مدى عقود بعدما إنسلخت القيادة «الشيوعية» طبقيا و فكريا عن الشعب. وبالمقابل، كيف إنتصرت الفيتنام المتأخرة الفقيرة على أمريكا المتقدمة الغنية ؟ أليس أساسا بفضل قوة جبهتها الداخلية مقابل تفكك جبهة العدو الداخلية سواء في سايغون أو واشنطن ؟ ألا يكفي ذلك للإستنتاج بأن أهمية الجبهة الداخلية تفوق أحيانا أهمية الجبهة العسكرية، بل تتكفل بتعديل ميزان القوى العسكري نفسه، سلبا أو ايجابا.

اليوم أصبح العالم مفتوحا ومكشوفا أمام السطوة و القرصنة الإمبريالية الصهيونية، لم يعد هناك حدود وخطوط حمراء تقسم العالم إلى معسكرين، لكن بقيت هنا و هناك بعض القلاع المتفرقة التي فقدت بغياب المعسكر الإشتراكي خطها الأحمر الدولي الذي كان يحميها، لكنها تأبى الركوع. سورية واحدة منها خصوصا لو قورنت بما آل إليه حال باقي الدول العربية من ذل و خنوع.

باتت المواجهة المكشوفة بين سورية «القلعة العربية - النسبية - شبه الوحيدة» والعدو الأمريكو-صهيوني هي الأرجح، خصوصا فيما تبقى من ولاية الأحمق بوش الصغير المأزوم في العراق و حليفه السفاح شارون المأزوم في فلسطين المحتلة. و بات لزاما علينا تبعا لذلك تفحص أحوال جبهتنا الداخلية بمزيد الدقة و الوضوح إنطلاقا من رؤية أوسع و أبعد للأمور، واضعين نصب أعيننا مشهد القلعة التي يراد أخذها من الداخل، أو من الخارج بعد إضعاف الداخل إلى درجة تسمح بالمخاطرة بالغزو. و دائما ضمن إطار موقفنا المعروف في المسألة الوطنية في ظروف سورية الواقعية والذي أتت التطورات الأخيرة لتؤكد صحته للمرة الألف.

تمثل الوحدة الوطنية الأساس العميق الذي تقوم عليه قدرة الدولة-القلعة على المواجهة و في المواجهة. فعلى أساس الوحدة الوطنية تتحدد قدرة هذه الدولة على التعبئة الداخلية لمواردها المادية و البشرية و للطاقات المعنوية لشعبها، بل و تتوقف عليها أيضا التعبئة الخارجية لحلفائها. و على أساس هذه القدرة على التعبئة الداخلية أولا و الخارجية تاليا يتحدد إلى حد بعيد توازن القوى و بالتالي النتائج السياسية سواء وقعت المعركة عسكريا أم لا.

و لكن ماذا نعني تحديدا بالوحدة الوطنية ؟ نعني كلا البعدين الأفقي «المكونات و التنوعات المناطقية والقومية والدينية و المذهبية»، و الشاقولي «الطبقات الإجتماعية»، كما نعني أيضا البعد الثالث السياسي الذي يشكل الملاط اللاحم لكل هذه المكونات. 

و من الطبيعي أن يركز العدو الأمريكو-صهيوني جهوده الخبيثة داخل قلعتنا على تلك الأبعاد الثلاثة جميعا:

■ أفقيا: رغم أن محاولات سابقة كانت قد باءت بالفشل، إلا أن العدو سيعاود الكرة خصوصا إذا بدت له علائم  تراجع في الموقف الوطني سيلتقطها على أنها دلائل تفكك قابلة للإستغلال و التصعيد بآليات تبدو داخلية لا يد له فيها، كما قد يلجأ إلى إستغلال ملفات طال الأمد عليها مفتوحة دون مبرر

■ شاقوليا: نجح العدو في إيجاد «مواطيء قدم» إجتماعية تتمثل بنمو الشرائح البرجوازية الجديدة الفاسدة المفسدة المنسلخة والمستعدة لقلب ظهر المجن للوطن  «جر عربة غورو» على حد تعبير «قاسيون» الموفق. كما تم إضعاف الوزن النوعي والنفوذ الإجتصادي والسياسي للطبقات و الشرائح الوطنية، خصوصا منها تلك الأكثر جذرية أي العمال و الفلاحين، بناة الوطن و ثروته الحقيقية زمن السلم و حماته في الشدائد.

■ سياسيا: هنا نجد بالدرجة الأولى تفاوتا مدهشا ما بين درجة الوعي الوطني المرتفعة و الرفض الشعبي لكل ما هو صهيوني-أمريكي-إمبريالي و بين الدرجة المتدنية للعمل السياسي و التأطير الحزبي الوطني لطاقات هذا الشعب. لقد أخفق العدو الأمريكو-صهيوني في تحقيق إختراقات سياسية بارزة رغم كل الإخفاقات و الإحباطات التي مر «أو أمرر» بها السوريون، لكننا جميعا بالمقابل - كطلائع سياسية مفترضة لهذا الشعب - لم ننجح في تحويل الروح الوطنية العالية إلى طاقة كفاحية منظمة فاعلة موحدة.

وإذا كان الإنقسام الأفقي هو الأخطر في وضع العراق الشقيق بفعل ممارسات النظام الصدامي الفاشي الشوفينية والطائفية و العشائرية-العائلية، فلعلنا نجد أن الخرق الشاقولي في سورية قد وصل إلى درجة تنذر بالخطر.

كان دأبنا نحن الشيوعيين، في إطار إيماننا الراسخ بالوحدة الوطنية، توجيه النقد لكل ما تتخذه الحكومة من تدابير من شأنها تعميق الاتجاه نحو اليمين في «الداخل» السوري و بالتالي زيادة قدرة «الخارج» على التأثير المباشر أو عبر وكلائه المحليين. و أتت قبل أيام شهادة الصهيوني وليم بيرنز معاون وزير الخارجية الأمريكي أمام مجلس الشيوخ بشأن قانون محاسبة سوريا المزعوم لتؤكد صحة موقفنا، فبعد أن شن الحملة القذرة المعتادة على السياسة الوطنية السورية، لم يفت بيرنز «الثناء» على بعض جوانب «سلوك» الحكومة السورية في الداخل منوها بالذات بالسماح بالبنوك و الجامعات الخاصة و تغيير لباس الفتوة في المدارس؟! 

سؤآلنا اليوم لأولي الأمر في هذا الظرف الدقيق: ألم يحن الوقت، بعد 15 عاما من الإنعطاف نحو اليمين في السياسات الداخلية، لإجراء تقييم لتلك السياسات على أساس نتائجها الملموسة الفعلية على الأرض بعيدا عن الوعود الوردية و تسويق الوهم ؟ 

إننا لعلى ثقة من أن أية مراجعة موضوعية من هذا القبيل، ليس بمعاييرنا نحن كشيوعيين بل بمعايير: المسألة الوطنية - الوحدة الوطنية - الإستعداد و التعبئة و التأهب لخوض المعركة، لن تكون نتيجتها سوى صدور الإيعاز: يسار در ... نظم صفوفك ... أمام سر !

ولأننا وطنيون جدا، و واقعيون جدا «على الأقل أكثر بكثير من أصحاب البرنامج اليميني المستنسخ من وصفات العولمة و التبعية الليبرالية الجديدة، و البعيد عن واقع بلادنا - الجغراسي على الأقل - حيث تأتي المسألة الوطنية في المرتبة الأولى»، لا نطلب من أحد تبني خطنا الإجتصادي «الاقتصادي ـ الاجتماعي»، بل نريد في هذه المرحلة تصحيح ما أفسده الدهر و ترميم ما أضعفه النهج اليميني المفلس الذي بانت للعيان نتائجه الخطيرة قبل أن يستكمل كامل أبعاده «فكيف لو استكملها لا قدر الله ؟». ما ندعو إليه هو الإنعطاف بالسياسات الداخلية الإجتماعية و الإقتصادية يسارا فقط بالزاوية التي تجعلها تتوافق بالحد الأدنى مع ما تفرضه ضرورات المعركة الوطنية-القومية التي لا يطلب العدو بها هذه المرة أقل من سقوط القلعة... بالعلم الأبيض إن أمكن له ذلك.... أو بالعنف الدامي.... إن أمكن له ذلك أيضا... ونحن له بالمرصاد دوما.

 

■ بشير يوسف