في الذكرى الثانية لعولمة حالة الطوارئ تساؤلات مشروعة حول الخطاب الأمريكي لدمقرطة العرب والفرس!!

كلما زادت المياه الآسنة والدماء في المستنقع الأمريكي في العراق خرج مستشارو الرئيس الأمريكي بخطاب أو «رسالة هرب جديدة» إلى الأمام. فمع فشل تدبير شؤون عراق ما بعد الحرب، حاولت الإدارة الأمريكية نقل الأنظار بطرح مشروع هائل لمنطقة حرة اقتصادية وتعاون يوازي، إن لم يتقدم، على مشروع الشراكة الأوربية. ومع اقتراب الذكرى الثانية لإعلانه الحالة الاستثنائية على الصعيد العالمي (13 نوفمبر 2003)، خرج الرئيس الأمريكي بشهادات حسن وسوء سلوك ديمقراطي يوزعها على العالم العربي وإيران.

بعيدا عن القراءة الحرفية لنتائج امتحان القوة العظمى لحكومات المنطقة، لا بد من ملاحظة أن هناك ثوابت أساسية للإدارة الأمريكية لم تتغير. هذه الثوابت هي التي تزرع العنف في هذا الشطر من العالم بل والحقد الأعمى على الولايات المتحدة وحلفائها.

أولى هذه الثوابت, الربط بين ما يسمى «الحرب على الإرهاب» والأمن القومي الأمريكي وقراءة خارطة الحريات في أي بلد. فالدولة التي تسمح لعناصر المخابرات الأمريكية بالعمل والتحقيق وتستجيب لطلباتها في توقيف واعتقال من تصنفه إرهابيا، هي دولة تسير في الاتجاه الديمقراطي الصحيح. أما أن يبلغ عدد المعتقلين فيها نسبة لم تشهدها في تاريخها, فمسألة فيها نظر.

ثاني هذه الثوابت، أن إرضاء الحكومة الإسرائيلية يعني كسب الأيباك «اللوبي الموالي لإسرائيل» والصحافة الواقعة في فلكه. وهذا يعطي في منطق الإدارة الحالية المحتاجة لأي حليف داخلي هامش أوسع.

ثالث الثوابت, ضرورة تهميش أي حركة تتناول جرائم ومظالم السيطرة الأمريكية الاقتصادية والعسكرية على العالم. بحيث يجري التركيز دائما على محاور ايديولوجية وسياسية بعيدة عن المفاصل الحقيقية للأزمة العالمية والمشاكل الفعلية لأغلبية البشر.

بإعلان الرئيس الامريكي الحالة الاستثنائية على الصعيد العالمي في 13 نوفمبر 2003، لم يلاحظ رجال القانون أن هذه هي المرة الثانية منذ 300 عام في الغرب التي تلغى فيها الصفة القانونية لفصيلة من البشر أصبحت خارج التعريف والتصنيف منذ فعل هتلر ذلك بحق اليهود والغجر. لعل أفضل من شخّص هذا الوضع الباحث الإيطالي جيورجيو أغامبن في كتابه «الحالة الاستثنائية». لقد قررت الدولة الكبرى التعامل مع «جماعة مارقة» بمنطق «الدولة الداعرة» التي يحق لها أن تفعل ما تريد باسم الدفاع عن النفس. هذا المفهوم الواسع الذمة تجسد على الأرض بحرب أهلية على الصعيد العالمي. فصحيح أن العولمة قد حولت مفهوم السيادة إلى مفهوم جد نسبي، لكنها لم تفعل ذلك لا باسم تعريف قانوني ذاتي ولا باسم سيادة تعطى للحكومة الأقوى. القرار السياسي كان من جديد وراء هذا التوجه المدمر للآخر وللذات على المدى البعيد.

بعد ربع قرن على توقيع اتفاقيات هلسنكي, كتب هنري كيسنغر: «بوصفي أحد المشاركين الأساسيين في مباحثات النص النهائي لمؤتمر هلسنكي، أستطيع القول بأن الإدارة الأمريكية التي مثلتها كانت تعتبر الوثيقة في المقام الأول سلاحا ديبلوماسيا لمحاربة الشيوعيين». ولا أظن شخصا يمتلك الحد الأدنى من الفطنة يتصور أن بإمكان ولفوفيتز أن يقول بعد ربع قرن، أن سياسة إدارته كانت تهدف لمحاربة القاعدة؟ فهذه الإدارة هي التي أعطت منظمة القاعدة شرف لقب العدو. وهي كسابقاتها همّشت كل تيارات الإصلاح «إسلامية وعلمانية» بهدف الحؤول دون تغيير فعلي في المنطقة العربية، حيث أن تغييراً  كهذا هو مصدر خطر على مصالحها وهيمنتها. ويؤيد أطروحتنا حول السعي الأمريكي الجاد لضرب أية تحولات ديمقراطية جذرية في المنطقة العربية تساؤلات مشروعة يحق لكل ذي بصيرة طرحها:

1- كيف يمكن احترام حقوق الإنسان في ظل إعلان حالة طوارئ على الصعيد العالمي؟

2- كيف يمكن تعزيز القواعد الدولية الدنيا للسلم والديمقراطية وحقوق الإنسان بتهميش الأمم المتحدة وشل فعالية المحكمة الجنائية الدولية ومحاربة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية للبشر؟

3- كيف يمكن التعامل مع مفهومي التنوير والتغيير بسلوك يغتال العلاقات المدنية بطبيعته لاعتماده مبدأ السيطرة وتفوق الأنا وتبعية الإنسان للإنسان في حين قام مفهوم الحق المدني والتنوير, كما يقول عمانوئيل كانت، على إلغاء فكرة الإنسان القاصر.

4- كيف يمكن تحقيق تحولات نحو الديمقراطية وتحجيم العنف في المجتمعات وما يناله 2,7 مليار إنسان من أجل العيش في اليوم أقل من المساعدة التي ينالها المزارع الأوربي لتربية رأس ماشية واحد في اليوم أيضا؟

5- كيف يمكن الحديث عن المجتمع المدني في وقت يتم فيه ضرب النسيج المجتمعي الوسيط بين حاجات المجتمعات وقدرة الدولة على تلبيتها، قصدنا بذلك الجمعيات الإنسانية والخيرية والاجتماعية. 

6- كيف يمكن إعطاء المثل الديمقراطي وتوسيع الفضاء الحيوي بين المجتمع العضوي التقليدي والدولة بأشخاص يرفض المحتل منحهم صفة البالغ ويمنح حليفه منهم صفة استشارية في إدارة شؤون بلاده؟

لقد أدركت الإدارة الأمريكية الحالية أن الحالة الاستثنائية هي الهيكل القادر على مواجهة شاملة مع الآخر تنطلق من الكلمات الكبيرة مثل: الحضارة والثقافة والأمن القومي والشعب والديمقراطية. لكنها لم تتوقع أن تنجب هذه الحالة، ليس فقط عقلية وإيديولوجيات الطوارئ التي تعرفها جيدا بلدان تعيش في ظلها منذ أربعة عقود، وإنما حالة مقاومة بالمعنى الواسع والشامل للكلمة. وكون أرقى أشكال هذه المقاومة قد تجلى في اتساع جبهة مناهضة السيطرة ووحشية العولمة في مجتمعات وثقافات مختلفة، كان لا بد من توجيه الأنظار إلى الأرضية المشتركة عند الأقوى والأضعف في عولمة الخروج عن القضاء: أي المقاومة المسلحة للسياسة الأمريكية. ورغم أن كل العمليات المسلحة التي قامت أو اتهمت بها منظمة القاعدة تسببت في عدد ضحايا يقل عن عدد الأطفال الذين يموتون من الجوع أو المرض في أربع ساعات، تم التركيز على «الحرب ضد الإرهاب» باعتبارها أولوية الأولويات. فهي التي ستحقق السلام الهندي الباكستاني والعربي الإسرائيلي وتزرع الديمقراطية في الأرض العربية وتخلص العرب والعجم من الدكتاتورية والملالي وتقضي على الجوع والمرض والإيدز. هذا المنطق التبسيطي المتعمد يهدف إلى قتل الخطاب الاستدلالي والمبادرة والقدرة على استقراء العالم وحق المواطن، أميا كان أو مثقفا، في البحث عن حلول فعلية في مجتمعه الحقيقي. 

أصبح من المطلوب أن يكتشف الإنسان العربي في انتخابات تقاطعها أغلبية المجتمع وأخرى لا يشارك فيها أكثر من 13 بالمئة قانونيا، كما الحال في الكويت، ديمقراطية أصيلة. عليه أن يحيي بخشوع قرار رجوع الأبناء إلى ما فعل المؤسس عبد العزيز آل سعود عند تأسيس مملكته «التصاهر مع القبائل وإقامة سلطة محلية تكون وسيطته عندها ووسيطتها عنده». كذلك أن يميز بين المعتقل السياسي والإرهابي باعتبار هذا التمييز يشكل الوسيلة الوحيدة لنسيان الناس أن أكثر من 21 ألف معتقل في العالم العربي هم في سجون القوات الأمريكية والإسرائيلية أو بدفع مباشر منها، وأقل من ذلك الرقم  بثلاثة آلاف ما يوجد في سجون 20 دولة عربية تسلطية. 

مطلوب من هذا الإنسان تفّهم جريمة ضد الإنسانية اسمها الاستيطان وجريمة عنصرية اسمها الجدار العازل وجريمة عدوان هنا واحتلال هناك حرصا على مشاعر الرئيس الأمريكي الذي يعدنا بالمن والسلوى.

لم تعد الديمقراطية انتخاب الشعب لمن يريد، ولم يعد هدفها تمتع الإنسان بأفضل ظروف الدفاع عن حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، ولا أن يشمل النظام الديمقراطي الكل ملغيا الاستئصال والنفي والإبعاد. نحن اليوم في عصر «ديمقراطية» المحاباة التي تنصب المحتل محررا ومجرم الحرب رجل سلام والنصاب حاكما والجلاد مناضلا ضد الإرهاب. «ديمقراطية» تخلق حالة اعتياد مع كل أشكال الفساد والاستبداد التي قرف منها الإنسان في العالم العربي وظّن أن حقبتها قد انتهت.

■ د . هيثم مناع

 

● عن «شبكة مركز دمشق الالكترونية» 13/11/2003