بداية النهاية الأمريكية

النزعة العسكرية الأمريكية، مؤشّرٌ على الانحدار الاقتصادي والاجتماعي...

■  الحرب، داخل الرأسمالية.. آلية لحلّ النزاعات وتقدم بعض الأوكسجين للنظام

■  «إدارة بوش ترتكب اعتداءً على سكان العالم وعلى الأجيال القادمة لمصلحة بضعة قطاعاتٍ ثريّة وقوية»

■  لا يمكن لليد الخفية للسوق الحر أن تعمل دون قبضةٍ خفية. لا يمكن لماكدونالد (سلسلة المطاعم) أن تتطور دون ماكدونالد دوغلاس، مصمّم طائرات F-15.

يقول البروفيسور ميشيل شوسودوفسكي:*

إنه في مطلع الألفية الثالثة، تمشي الحرب يداً بيد مع «السوق الحر».

لقد علّمنا القرن الماضي أنّ الرأسمالية تتميز بفائض إنتاجٍ مزمن وتنمية غير متساوية في كبريات كتل السلطة. يتسبب هذا الأمر في التناقضات التي لا يمكن التوفيق بينها، والتي تؤدّي إلى نزاعٍ يصل حدّ الموت. يؤدي هذا النزاع بدوره يوماً ما إلى تصادمٍ عسكري. إن لم ير رأس المال مخرجاً آخر، فإنّه يلتجئ إلى العنف الحربي. علاوةً على ذلك، فإنّ بعض القطاعات لها مصلحةً قويّة في النزاعات العسكرية. مهما كانت الحال، فإنّ الحرب، داخل النظام الرأسمالي، هي بامتياز آلية حلّ النزاعات القصوى وتقديم بعض الأوكسجين للنظام. هذا أمرٌ ربما لا نحبّ سماعه، غير أنّ التاريخ يرينا بأنّه لا وجود لمخَرجٍ آخر ضمن هذا النظام. لقد كان هناك على الدوام أناسٌ يعتقدون بأنّ الرأسمالية تستطيع تجاوز أزماتها بوسائل سلمية، لكن الأحداث تجاوزتهم في كلّ مرّة.

أزمةٌ اقتصادية دائمة

منذ السبعينات، تواجه الرأسمالية أزمةٌ اقتصادية دائمة. وهذه الأزمة تتصاعد في السنوات الأخيرة. وفق ماكدونوف، رئيس الاحتياطي الفدرالي في نيويورك، فإنّ «الأزمة المالية الحالية هي الأخطر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.» أما الملياردير والمضارب جورج سورّوس، فهو يخشى «من أن يكون العالم فريسة أزمةٍ اقتصادية وسياسية حادّة. إن لم تتخذ إجراءاتٌ جدّية، فإنّ هذه الأزمة سوف تؤدي إلى انحلال النظام الرأسمالي العالمي». وطبقاً لسورّوس، فإنّ »الوقت لم يفت لإصلاح النظام، لكن الأوان قد آن منذ فترة ليست قصيرة«. 

لقد بدأ فريق بوش أعمال «الإصلاح» هذه. إنّهم، بهربهم العسكري إلى الأمام، يحاولون محاربة أزمتـ(هم) وإنقاذ مصالح الرأسمال الأمريكي. على نحو كامن، نجد أنفسنا إذاً بمواجهة الطور الأكثر شراسةً في الرأسمالية، وهو طورٌ يمكن أن يظهر عنفاً أكبر من الاصطدامين العالميين اللذين حصلا في القرن الماضي. وفق تشومسكي، فإنّ «إدارة بوش ترتكب اعتداءً على سكان العالم وعلى الأجيال القادمة لمصلحة بضعة قطاعاتٍ ثريّة وقوية».

حملة وحشية.. وانحدار!

إنّ الحملة الوحشية التي يقوم بها بوش تغطي على جميع المشكلات العالمية. كما أنّ توقّف حملة النهب المنظّم هذه شرطٌ مسبق إذا أردنا التعرّض للمشكلات البيئية والاجتماعية وغيرها. لم ندرك ذلك بعد كما ينبغي، وهذا يسري على مناهضي العولمة (مهما كانت التسمية التي يطلقونها على أنفسهم). وهكذا، فإنّ لدى طغمة بوش فكرتها الخاصة عن «عالمٍ آخر» وهي تتلهّف لإقامته. سوف تصبح جميع الخطط والأفكار المتعلّقة بعالمٍ آخر عديمة القيمة إذا تركنا أشباه رامبو هؤلاء يتّخذون مسارهم الخاص. ولن نذكر هنا سوى مثالٍ واحد: فعددٌ كبيرٌ من حركات التحرر في بورتو أليغري هي اليوم على قائمة الإرهابيين، حتى في أوروبا. ينبغي اليوم أن تتحد جميع القوى لوضع حدٍّ لهذه الحملة. لا يمكن لحركةٍ اجتماعية تطمح بإخلاصٍ إلى وجود «عالمٍ آخر» إلاّ أن تعطي الأولوية المطلقة لمنع وتوقيف حرب الاستيلاء هذه. ودون ذلك، فإنّنا نترك نفسنا للأوهام تهدهدنا بصحبة القاعدة الاجتماعية العالمية كلّها. وعلى عكس ما يعتقد المرء في كثيرٍ من الأحيان، فإنّ التحريض على الحرب في الولايات المتحدة ليس دليل قوة، بل بالأحرى دليل ضعف. والنزعة العسكرية هي مؤشّرٌ على الانحدار الاقتصادي والاجتماعي، ويكفي أن نتذكّر الحقب التاريخية البعيدة. لقد كتب المؤرّخ الشهير إيمانويل واليرشتاين ما يلي: «الولايات المتحدة قوّة كبيرة مهيمنة في طور الانحدار. اليوم، يمثّل الناتج الإجمالي السنوي في الولايات المتحدة 32% من الناتج الإجمالي العالمي. ومن المتوقّع أن ينخفض هذا الرقم إلى النصف في العام 2020».

تفاقم الهوّة

إنّ المشكلات الاجتماعية في الولايات المتحدة تتراكم، والهوّة بين الفقراء والأغنياء تهدد بالتوسع بطريقةٍ لا يمكن التحكّم فيها. يستند مجمل البنية المالية إلى هذه الأسس وهو على وشك الانهيار. يتعرّض رأس المال الأمريكي إلى مشكلات تتزايد خطورتها. والإجراءات الاقتصادية التي تمّ تطويرها في إطار الهجوم النيوليبرالي لم تعد تكفي لضمان أمن الفوائد. في الخارج، تهدّد مقاومةٌ متصاعدة «النظام العالمي الجديد». اليوم، يتجلّى هذا الأمر بصورةٍ خاصة بموقفٍ معادٍ لأمريكا في منطقتين تتمتعان بأهميّةٍ استراتيجية هائلة بالنسبة للولايات المتحدة: أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. في هاتين المنطقتين، فقد العديد من الأحزاب والمسؤولين السياسيين ذوي الاتجاهات الموالية للغرب مصداقيتهم، وتتزايد قوّة الحركات الشعبية، بما في ذلك مقاتلو حرب العصابات (كما في كولومبيا)، وخسرت الشركات متعددة الجنسيات من نفوذها لصالح منافساتها الأوروبية. يحاول بوش الوقوف في وجه هذه الميول بالاستيلاء على بلدانٍ غنيّةٍ بالمواد الأولية الحيوية وبمعاقبة جميع الأنظمة التي تقاومه.

اليد الخفية..  والقبضة الخفية!

وقد اختصر المعلّق المعروف توماس فريدمان هذه العقيدة العسكرية بعبارةٍ أصبحت شهيرة: «باستهدافها لعولمةٍ تعمل بصورةٍ جيدة، فإنّ على أمريكا أن تجرؤ على التدخّل بصفتها القوّة العظمى فائقة القوة، وهذه هي حالها بالفعل. لا يمكن لليد الخفية للسوق الحر أن تعمل دون قبضة خفية. لا يمكن لماكدونالد (سلسلة المطاعم) أن تتطور دون ماكدونالد دوغلاس، مصمّم طائرات F-15. القبضة الخفية التي تؤمّن للعالم تقنيات وادي السيليكون تدعى بالجيش الأمريكي، وقواته الجوية والبدية والبحرية.»

من التناقض.. الى الانحلال!

إنّ تناقضات الرأسمالية توصل بالضرورة إلى الحرب. لكن الحرب، وبصورة معاكسة، تكثّف تناقضات النظام وتسرّع انحلاله. يمكن للولايات المتحدة أن تتعرّض لمفاجآتٍ في استيلائها على العراق. كما أنّ احتلال جيوش الولايات المتحدة والأمم الإمبريالية الأخرى لدولٍ ذات سيادة سوف يزيد بصورةٍ كبيرة تجذير جماهير العالمين العربي والإسلامي، وشعوب أمريكا اللاتينية وغيرها. سوف تضعف الأنظمة الموالية للغرب وربما يسقط بعضها. سوف تكون التربة مناسبةً أكثر فأكثر للاضطرابات والثورات. وسوف تتزايد حاجة الولايات المتحدة وحلفائها للجوء إلى السلاح لتفرض «نظامها العالمي» الجديد، إن لم تتصارع فيما بينها. إنّ «التوسّع المفرط للإمبريالية»، الذي يعني بأنّه سيتوجّب على الولايات المتحدة أن تتصارع على جبهاتٍ عديدة في الوقت نفسه وبأنّها سوف تضطر للتراجع في نهاية الأمر، لم يعد أمراً مستبعداً. من جهةٍ أخرى، فإنّ مجموع عقيدة بوش يستند إلى افتراض أن يخضع شعبه بصورة منفعلة إلى هذه العسكرة دون أن يعارضها أو يحاربها. وهذا أمرٌ بعيدٌ جداً عن الواقع. فقبل اندلاع الحرب على العراق بكثير، حدثت مظاهراتٌ شعبية كبيرة الأهمية تذكّر بالمظاهرات ضدّ الحرب في فيتنام. ولن يؤدي الإعلان عن زيادة ميزانية الدفاع على حساب القطاعات الاقتصادية سوى تكثيفٍ إضافيٍّ لهذه المعارضة. العراق: إشارة البداية للحرب العالمية الثالثة.

* «ميشيل شوسودوفسكي»

 

بروفيسور في الاقتصاد، كندي من أصل يوغسلافي كتب في تأثيرات صندوق النقد والبنك الدوليين على الاقتصاد اليوغسلافي بعد انهيار دول أوربا الشرقية.