كوبا كنموذج آخر للديمقراطية

في مطلع الثمانينات، طوّر خبراء من الحزب الجمهوري خطوطاً رئيسية لسياسةٍ عدوانية ضدّ أمريكا اللاتينية، وذلك لعرضها على الرئيس الأمريكي ريغان. عُرفت باسم سانتافي II. وقد نصّت تلك الوثيقة على وجوب أن تشدّد السياسة الجديدة في تلك القارة السيطرة التي تراخت في عهد الرئيس السابق كارتر. الموضوع الأساسي لسانتافي II هو «ضرورة الديموقراطية».

غريبٌ مع ذلك أن تستخدم الولايات المتحدة هذا التعبير بطريقةٍ اعتباطية. وبالفعل، فهي تغمض عينيها فيما يخصّ الدكتاتوريات الصديقة في أمريكا اللاتينية (مثل غواتيمالا والسلفادور وبيرو والأرجنتين وتشيلي، إلخ.). وهي بالمقابل تشنّ حملةً شعواء من أجل «ضرورة الديموقراطية» بالنسبة لبلدان ديموقراطية، لكنها غير صديقة مثل نيكاراغوا وكوبا.

حين كان الثوريون الساندينيون على رأس السلطة في نيكاراغوا، كانت الولايات المتحدة تشتكي دون توقّف من نقص الديموقراطية. وقد قامت في تلك الأثناء بحربٍ مضادة انطلاقاً من هوندوراس وكوستاريكا كي تقلب النظام السانديني. كما ضغطت على البلاد من أجل تنظيم انتخابات. وحين ربح الساندينيون الانتخابات في نهاية الأمر، كرّست الولايات المتحدة 3.6 مليون دولار في العام 1989، و7.6 مليون دولار في العام 1990 كي «تمدّ يد العون» إلى الديموقراطية. أما حين خسروا الانتخابات، فقد تلاشت المساعدة. منذ ذلك الحين، فالبلاد تغرق في فوضى عارمة وبؤسٍ شديد. أما في ما يتعلّق بالولايات المتحدة، فقد وصلت إلى هدفها: فقد أعيدت «الديموقراطية»، ولم تعد هناك ضرورة للمساعدة. بعبارة أخرى، فإنّ مصير الشعب ومصير الديموقراطية لا يهمّان الولايات المتحدة على الإطلاق، وكلّ ما يعنيها الحفاظ على مصالحها.

في مطلع عام 1997، وعد كلينتون بغمر الكوبيين بالدولارات إن هم تبنوا «الطريق الديموقراطية» وتخلّصوا من فيديل كاسترو. المرحلة الأولى على هذا الطريق هي صحافة «حرة ومستقلة». واحتفل الداعون إلى صحافةٍ «حرة». كذلك، هناك أمرٌ يدعو إلى الاستغراب، وهو أنّ مديرة صحيفة المعارضة لابرينسا (التي تساندها الولايات المتحدة) هي التي انتصرت على الساندينيين أثناء انتخابات 1989. وليس من قبيل المصادفة كذلك إذا كان البابا قد طالب السلطات الكوبية أثناء زيارته إلى الجزيرة في عام 1998 بإتاحة مجالٍ أكبر للكنيسة كي تحتك بوسائل الإعلام...              

كثيرون يربطون مفهوم الديموقراطية بنظامٍ سياسي تجري فيه الانتخابات بانتظام على قاعدة نظام متعدد الأحزاب. مثل هذه الانتخابات تسمح بالفعل بإرساء وجود ممثلين للشعب. ويقال إنّ هذا النموذج هو بالتعريف ديموقراطي، وإنّه، بصفته كذلك، الوحيد الصالح. مثل هذه المسلّمة ليست إشكالية وحسب، بل إنّها خطيرة كذلك.

أولاً، إننا بهذه الصورة نتجاوز الوضع بأكمله. لمن تصلح هذه الديموقراطية؟ ما الذي تعنيه حرية التعبير بالنسبة لفلاّحٍ من أمريكا الوسطى يكسب بالكاد 30 يورو شهرياً؟ ما الذي تعنيه حرية الصحافة المزعومة حين تكون أغلبية السكان من الأميين؟ ما الذي يعنيه نظامٌ متعدد الأحزاب أو الحرية النقابية حين يختفي أناسٌ بصورةٍ منهجية على يد كتائب الموت؟ إنّ الديموقراطيات الأمريكية اللاتينية لا تستطيع أن تمنع موت ملايين الناس جوعاً أو بسبب أشكالٍ شتّى من الأمراض التي يمكن مع ذلك محاربتها بسهولة. في معظم المناطق، ترافقت الانتخابات الحرة في أمريكا اللاتينية بانخفاضٍ في مستوى المعيشة الوسطي. «الديموقراطية ليست لقاحاً ضدّ الفقر»، يعلن تقريرٌ حديث لليونيسيف.

يقول البروفيسور الأمريكي نعوم تشومسكي إنّ الديموقراطية الليبرالية هي الشكل الأكثر تطوراً والأقل كلفةً لديكتاتورية رأس المال الكبير. وهي توهم السكان بأنّه باستطاعتهم المساهمة في اتخاذ القرار. إذاً، فرأس المال الكبير يفضّلها على الدكتاتورية العسكرية طالما أنّ الظروف تسمح بذلك. 

ثانياً. على من يطالب بالمزيد من الديموقراطية أن يفهم جيداً بأنّ الولايات المتحدة لا تتحمل وجود أيّ نظامٍ سياسي في حديقتها الخلفية لا تسيطر عليه نخبها ولا يخضع لرغباتها. وقد استطاع التشيليون إدراك ذلك في العام 1973، حين أطيح برئيسهم الاشتراكي «ألليندي». وفق موسوعة التدخلات الخارجية في أمريكا اللاتينية، فإنّ الغرب قد تدخّل أكثر من 10 آلاف مرة منذ العام 1825، اقتصادياً، سياسياً، دبلوماسياً وعسكرياً، لتجنّب أن تتبنى بلدانٌ من هذه القارة موقفاً شديد الاستقلال، أو أن تتطوّر ديموقراطية شعبية في مكانٍ ما. إنّ كوبا الاشتراكية هي الهدف الأول منذ 43 عاماً. والدفع باتجاه «تغييراتٍ ديموقراطية» ليس سوى غلافٍ لتدمير الاشتراكية الكوبية وإخضاعها للإمبريالية.

أخيراً، فإنّ المناغمة بين «الديموقراطية» و«النظام متعدد الأحزاب» هي أيضاً مسألةٌ إشكالية، إذ إنّنا بذلك نتناسى حقيقة كوبا. لو أنّه لا توجد ديموقراطية حقيقية في كوبا، لماذا لم تؤدّ الأزمة الاقتصادية الخطيرة إلى اضطرابات كبيرة، مثل تلك التي عرفناها في أندونيسيا وألبانيا والجزائر والأرجنتين حين ووجهت تلك البلدان بهبوطٍ اقتصاديٍّ مماثل؟ كانت زيارة البابا ستوفر فرصةً ممتازة للثورة: إذ أنّ أنظار الصحافة العالمية بأجمعها كانت موجّهة نحو كوبا، وكذلك بعض الأمريكيين الذين كان عليهم تنظيم بعض الاضطرابات. غير أنّ أيّة احتجاجات معادية لكاسترو لم تحدث، ناهيك عن الثورات.

تظهر استطلاعاتٌ مستقلة للرأي أنّ 80% من الكوبيين راضون عن النظام الحالي، وأنّ 5% فقط يتمنون نظاماً متعدد الأحزاب، وهو معطى أكّدته النتائج الانتخابية. كونفليت ستاديز (دراسات النزاعات) هو جهازٌ استعلامي يخدم عالم الأعمال البريطاني، ولا يمكن بالتالي اتهامه بالتعاطف مع اليسار. مع ذلك، فإننا نقرأ: «هناك مصدرٌ لمساندة النظام، هو المشاركة السياسية، والدرجة العالية من انخراط الكوبيّ المتوسط في اتخاذ القرار السياسي». حتى أنّ منشقاً هاماً مثل إليثاردو سانشيث يعترف بأنّ 80% من الكوبيين يناصرون النظام. بأيّ حقٍّ إذاً نقدّم دروساً للشعب الكوبي وننكر عليه الحق في اختيار قادته ونظامه بنفسه؟

يختصر الجنرال الكوبي غالفيث بطريقةٍ متماسكة جداً سؤال الديموقراطية على هذا النحو:

 

 «أنتم البلجيكيون لديكم نظامٌ سياسيّ راقٍ. والإجراءات الانتخابية، وطريقة عمل الأحزاب، ووسائل الإعلام، إلخ. تمثّل جميعها سلسلةً من المراشح وتسهر على عدم وصول الطبقة العاملة إلى السلطة أبداً. الأمر في كوبا معاكسٌ تماماً. نحن أيضاً نضع جميع أنواع المراشح... لمنع وصول طبقة الرأسماليين إلى السلطة».