برافو الأعضاء الدائمون

لقد شنت الإدارتان الأمريكية والبريطانية الحرب على العراق في 19/3/2003 في تحد أمريكي للأمم المتحدة واستخفاف بها، والتهديد بأنها أصبحت منتهية، وفي شتائم للحلفاء الآوروبيين، الذين عارضوا هذه الحرب.


والحرب على العراق تبين أن جميع ذرائعها كاذبة، فلا تكمن أسبابها لافي أسلحة الدمار الشامل، ولافي عنجهية النظام الأمريكي، ولافي تهديد ذلك النظام لجيرانه. ولقد تبين أن للحرب هدفين كبيرين، الأول هو تغيير خريطة الشرق الأوسط، وبسط الاستعمار القديم عليها، والثاني إرهاب العالم، بشكل لايجرؤ معه أحد على معارضة المخططات الأمريكية، من جهة، والمضي، من جهة أخرى بفرض مختلف مخططات السيطرة على مناطق العالم.

وتبين أن الحرب الحالية همجية تقتل العراقيين المدنيين بمختلف وسائل القتل والتدمير. فالمجازر التي جرت حتى الآن هي نموذج رهيب لما سيجري في المستقبل أيضاً.

وتهب الدول الدائمة العضوية ضمن هذه  المعطيات ليبصموا بأمر أمريكي أيضاً على استئناف العمل ببرنامج النفط مقابل الغذاء. وهذا بدلاً من أن يصدروا قراراً بوقف الحرب وبانسحاب القوات الأمريكية والبريطانية.

ومن جهة أخرى، يقول بليكس، المسؤول عن المفتشين الدوليين (أخبار 8/3/2003)، إنه يعتبر مهمته مستمرة وأنه سيستأنفها حالما تسمح الظروف.

أي مهزلة دولية هذه؟ هل يراد للعراق أن يخرج من هذه الحرب مع استمرار عقوبات الحصار والتفتيش؟

في قوانين العقوبات العادية، العقوبة الكبرى تلغي العقوبة الأصغر، وأي عقوبة هي أكبر من الغزو ومحاولة الاحتلال؟

بيد أن مجلس الأمن يريد تأييد عقوبتي الحصار والتفتيش، ومن الناحية التطبيقية، كيف يمكن في هذه الظروف تنفيذ برنامج النفط مقابل الغذاء؟ هل يراد بيع النفط العراقي لتمويل عملية الغزو، إنه بتسليم موارد النفط إلى سلطات الغزو أو بتخصيص المواد الغذائية المشتراة للإمداد اللوجستي للقوات الغازية؟

إنسانية الأعضاء الدائمين يبدو أنها مثل  إنسانية القوات الأمريكية، التي تقتل الشعب العراقي من أجل تحرير الشعب العراقي، وتقصف المدن العراقية بشكل إنساني، وبدوافع إنسانية.

الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، من المفروض أن تحقق نقلة نوعية في الموقف بعد إهانات وتهديدات الإدارة الأمريكية. إن المصالح الاقتصادية والسياسية لتلك الدول تقتضي الوقوف تجاه الإدارة الأمريكية، والحيلولة بينها وبين تحقيق مخططات السيطرة على العالم.

نعتقد أن الخبراء في تلك الدول يعرفون، ما معنى سيطرة الإدارة الأمريكية على الشريان البترولي، ألا يهدد ذلك كل صناعة واقتصادات أوروبا، وحتى العقود الضخمة، التي تحلم بها الشركات الأوروبية لإعمار العراق، هل تسمح بها الإدارة الأمريكية؟

ماهو الوضع الأوروبي الهامشي نسبياً في منظمة التجارة العالمية، وفي صندوق النقد الدولي، وفي البنك الدولي؟

يبدو أن إدارات الدول الدائمة العضوية قدمت على ترك الحليفة «الكبرى» وحدها في الميدان، ويفضل في هذه الحالة أن تتلافى مواقف العقوق وترسل قواتها إلى العراق، كي تشترك في بعض القتال ضد العراق.

 إن إعادة الاستعمار القديم، الذي تحمل لواءه اليوم الإدارة الأمريكية يعود إلى القرن التاسع عشر وماقبل، فهي تحاول إرجاع التاريخ بعيداً إلى الوراء، وهذا لايتسبب فقط بالكوارث الإنسانية، وإنما أيضاً بالكوارث الاقتصادية، التي تضرب الاقتصاد الأمريكي قبل غيره، ولكن تضرب في نفس الوقت اقتصادات العالم الأخرى.

إن القفزات الاقتصادية الأمريكية الكبرى بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية في القرن الماضي استندت إلى أن احتكارات الولايات المتحدة كانت المتعهد الأكبر في إعمار أوروبا واليابان المدمرتين. وهذا المتعهد الأكبر فرض نقده على العالم، فصارت اقتصادات العالم الرأسمالي تدعم على حسابها الاقتصادالأمريكي، عبر الحوض الذهبي في الماضي حتى ستينات القرن الماضي، وهو قيام دول الحوض بإنزال مايلزم من احتياطاتها الذهبية في السوق لحفظ المعادل الذهبي للدولار ثابتاً، وبعد إلغاء الحوض الذهبي صارت البنوك المركزية لنفس الدول تمتص، أي تشتري الدولارات الفائضة في الأسواق المالية للحفاظ على قيمة الدولار في البورصة، إضافة إلى ذلك هناك توظيف الأموال الأوروبية واليابانية في الأسواق الأمريكية وفوق هذا ماتزال الدول الحليفة تدفع فواتير المخططات الأمريكية. في مؤامراتها ضد الاتحاد السوفييتي، وفي دعم الاقتصاد الإسرائيلي، وفي المؤامرات ضد يوغسلافيا إلخ…

أي أن الاقتصاد الأمريكي يعيش على نهب العالم الثالث من جهة، وعلى اقتصادات البلدان الرأسمالية المتطورة من جهة أخرى. ويزداد العبء على هذه الاقتصادات بمقدار ما تزداد نشاطات الإدارة الأمريكية  التخريبية اتساعاً. مثلاً، كلفت حرب الخليج الثانية فرنسا حوالي 11 مليار دولار أو أكثر، إذا لم تخني الذاكرة.

وبما في موقف الدول الأوروبية، التي كانت مناهضة للحرب في العراق، نوع من اليقظة، ولكن يظهر أنها يقظة يغلب عليها النوم. فاليوم العالم كله مهدد، بما في ذلك الأمم المتحدة، والدول الدائمة العضوية مطلوب منها موقف صلب لمصلحتها ومصلحة الإنسان.

■ محمد الجندي