سيطرة الدولار.. نقطة ضعف الولايات المتحدة الأمريكية وراء الحرب على العراق، حربٌ مالية عالمية

■ تحاول الولايات المتحدة المحافظة على وضع الدولار كعملةٍ مرجعيةٍ وحيدة، في حين يحاول جزءٌ من العالم استخدام اليورو بديلاً آخر للهيمنة الأمريكية..

■ تعتمد عقيدة فولفوفيتز على القيام بعرضٍ للقوة لردع أيّ بلدٍ يعارض في المستقبل القوة العظمى الأمريكية. وتحاول عقيدة بيرل الاستفادة من النزاع لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، في حين تنادي عقيدة كيسنجر بالسيطرة على موارد الطاقة.

يمرّ إرساء عالمٍ وحيد القطب حالياً عبر النزاع العراقي وتدمير الأمم المتحدة. لكن الحرب في العراق تخفي حرباً أخرى: السيطرة على العملة. في هذه الحرب المالية، تحاول الولايات المتحدة المحافظة على وضع الدولار كعملةٍ مرجعيةٍ وحيدة، في حين يحاول جزءٌ من العالم استخدام اليورو بديلاً آخر للهيمنة الأمريكية. بدأ التحول في نهاية العام 2000، حين قرّر العراق أن يحرّر سنداته النفطية والتجارية باليورو عوضاً عن الدولار. وحذت حذوه كوريا الديمقراطية وإيران. في آذار 2001، قامت إحدى الدول الرئيسية في الأوبك (1)، وهي فنزويلا، بمداخلةٍ هامة حول استخدام اليورو من أجل تثبيت سعر النفط. وبدأت الصين وروسيا في العام 2002 بتحويل ممتلكاتها المالية من الدولار إلى اليورو.

إذا كان لدى إدارة بوش أسبابها الخاصة للهجوم على العراق، فإنّ المؤسسات المالية الأمريكية تدعمها للدفاع عن هيمنة الدولار. تدور ما وراء الحرب على العراق حربٌ مالية عالمية، نجد الاتحاد الأوروبي في مركزها.

في الرابع من تموز 2000، وأثناء اجتماعٍ بعنوان: «يورولاند (2) وآلينا (3)» نظمه مركز الدراسات السياسية البريطاني، قام فيل غرام، عضو مجلس الشيوخ الجمهوري عن ولاية تكساس ورئيس لجنة مجلس الشيوخ للشؤون المصرفية والإسكان والشؤون المدينية، بالدفاع عن اقتراحه بالكلمات التالية: «لقد شهد العالم إنشاء عددٍ من مناطق التبادل الحر. الولايات المتحدة عضوٌ في إحداها، وأقصد منظمة آلينا التي نأمل بتوسيعها لتمتد من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي. لكنني هنا اليوم لأتحدث عن توسيع التبادل الحرّ عبر الأطلسي. ينبغي أن نخلق حدثاً دراماتيكياً. أعتقد بأنّ هذا الحدث يمكن أن يكون اتفاقاً للتبادل الحرّ بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. أستطيع خلال أسبوع أن أكتب اقتراحاً لمجلس الشيوخ - وأن أجعلهم يتبنونه - يمنح الرئيس السلطة والصلاحية للبدء بمفاوضاتٍ حول اتفاق تبادلٍ حرّ مع المملكة المتحدة.»

لقد اتخذ العديد من البرلمانيين البريطانيين موقفاً من المسألة، وكما تشهد على ذلك النقاشات في مجلس العموم، فالجدل المثار كان حاداً.

الحافز الأساسي الخفي

لقد بدأ الأمريكيون والبريطانيون الهجوم على العراق ضمن هذا السياق. وحول أصول هذا الصراع، تمّ تقديم ثلاثة أسباب كبرى سوف نذكرها باختصار قبل أن نلفت الانتباه إلى سببٍ رئيسي لم يتحدث عنه أحدٌ حتى الآن.

تعتمد عقيدة فولفوفيتز على القيام بعرضٍ للقوة لردع أيّ بلدٍ يعارض في المستقبل القوة العظمى الأمريكية. وتحاول عقيدة بيرل الاستفادة من النزاع لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، في حين تنادي عقيدة كيسنجر بالسيطرة على موارد الطاقة. ولتلك الأخيرة عدة أهداف:

أولاً، بما أنّ الولايات المتحدة هي المستورد الأول للنفط في العالم (9.8 مليون برميل في اليوم عام 2000 - أي نصف استهلاكها - مقابل 5.5 مليون في اليابان و2.7 مليون برميل في ألمانيا)، فإنّ عليها التأكد من حصولها على تلك الكمية. وتسيطر في هذه الأثناء على تزويد البلدان الأخرى المستوردة بالنفط، ويمكنها بذلك ممارسة ضغطٍ مفيد على حكوماتها. أخيراً فإنّ الحرب سوف تسمح لشركات النفط الأمريكية بالوصول إلى النفط الإيراني المعروف بكونه صاحب أدنى كلفة استثمار والذي حرمتها مقاطعة تلك الدولة منه لصالح الشركات الفرنسية والروسية والصينية.

لكن هذا كلّه ليس سوى القسم الطافي من جبل الجليد.

العملة المرجعية

في نهاية الحرب العالمية الثانية، ولتفادي المشاكل الحاصلة قبل النزاع، أرسى مؤتمر بريتون وودز قابلية تحويل العملات إلى ذهب. وكان على المصارف المركزية أن تمتلك احتياطياً كافياً من الذهب لتأمين تحويل أموالها. لكن إدارة نيكسون قرّرت في العام 1971 الخروج على النظام، واستبدلت بفعل الواقع معيار الذهب بالدولار الذي أصبح عملةً ورقية - العملة الورقية بامتياز.

حالياً، يتكوّن ثلثا الاحتياطي العالمي للمصارف المركزية من الدولارات، بالإضافة إلى أنّ أكثر من نصف المبادلات التجارية تتم بالدولار - والدولة الوحيدة التي يسمح لها بإصدار الدولارات هي الولايات المتحدة الأمريكية. لقد أصبحت التجارة العالمية منذ 1971 لعبةً إلى حدٍّ ما، تنتج فيها الولايات المتحدة أوراقاً نقدية خضراء في حين ينتج باقي العالم خيراتٍ يمكن للدولار شراؤها.

أخيراً وليس آخراً، فإنّ الدولار هو العملة المرجعية في السندات النفطية، من لندن إلى طهران ومن موسكو إلى مكسيكو.

لنقل إنّ الحال تلك كانت حتى الثلاثين من تشرين الأول 2000، اليوم الذي سمحت فيه لجنة العقوبات التابعة للأمم المتحدة للعراق بتحرير سنداتها النفطية والتجارية باليورو عوضاً عن الدولار. «الواقع أنّ الولايات المتحدة قد حاولت إيقاف هذه العملية، لكن كما أشار إلى ذلك خبيرٌ من لجنة العقوبات في الأمم المتحدة: ليس هناك أساسٌ حقوقي لمنع تنفيذ الطلب العراقي.» بدأ تنفيذ القرار العراقي اعتباراً من السادس من تشرين الثاني، وقرّرت تلك الدولة بعد فترةٍ قصيرة تحويل مبلغ 10 مليارات دولار الناتجة عن تطبيق برنامج «النفط مقابل الغذاء» والمحجوزة في حسابٍ لوكالة BNP-Paribas بنيويورك إلى اليورو.

اعتبر ذلك القرار سياسياً قبل كل شيء اتخذته بغداد ضدّ واشنطن، وظهر أنّ العملية كانت مفيدةً جداً على الصعيد الاقتصادي، فقد ربح اليورو 17% من قيمته مقابل الدولار خلال العام 2002 وحده. وكان السؤال المطروح حينذاك هو معرفة إن كانت دولٌ أخرى سوف تحذو حذو العراق - وكان أسوأ كابوسٍ للاحتياطي الفدرالي الأمريكي أن تقرر دول الأوبك مجتمعةً جعل اليورو عملة السندات في تجارتها النفطية.

تبنّت الأردن، التي يمثّل العراق شريكها التجاري الرئيسي، العملة الأوروبية على الفور في مبادلاتها مع بغداد. أما كوريا الشمالية، فقد تبنّت بعد عامين، في الأول من كانون الأول 2002، اليورو عملةً وحيدة لمبادلاتها التجارية.

ظاهرة الدومينو

في تموز 2002، قدّر المصرفيون بأنّ بلدان الخليج سوف تخسر في العام 2002 وحده 97 مليار دولار بفعل انخفاض قيمة العملة الأمريكية بالنسبة لليورو. من جهته، استحدث المصرف المركزي الإيراني لجنةً لدراسة المسألة. يقول مصدر إيراني إنّ المؤسسة قد ضغطت بكل ثقلها خلال صيف العام 2002 على وزير النفط من أجل تحول البلاد إلى اليورو في مبادلاته النفطية. ويزيد من منطقية التحويل أنّ ثلث النفط الإيراني يصدّر إلى أوروبا. في هذه الظروف، فما هو الداعي للاستمرار في استخدام العملة الأمريكية؟ وفق ما قاله عضوٍ في البرلمان الإيراني، «هناك فرصةٌ قوية كي يتبنى البرلمان هذه الفكرة... الآن وقد أصبح اليورو أقوى، فإنّ هذا أمرٌ منطقي.» بعد العراق وكوريا الشمالية، أصبح محور الشر (4) كاملاً.

أثناء مؤتمرٍ عقد تحت رعاية وزير الاقتصاد الإسباني في الرابع عشر من نيسان 2002، أثناء ترؤس هذه الدولة للاتحاد الأوروبي، اتخذ مدير قطاع تحليل السوق النفطية في الأوبك، الإيراني جافاد يارجاني، موقفاً دبلوماسياً.

«السؤال الذي يرد إلى الذهن هو معرفة إن كان اليورو سوف يفرض نفسه في الأسواق المالية العالمية، متحدياً بذلك هيمنة الدولار. إنّ واقع كون الولايات المتحدة مستورداً كبيراً للنفط هو ذريعةً أكثر إقناعاً من كونه منتجاً كبيراً له، وذلك من أجل الحفاظ على ثبات السعر والتسديد بالدولار. لكن إذا نظرنا إلى الإحصائيات، فإننا نجد بأنّ منطقة اليورو هي مستوردٌ أكبر للنفط ومشتقاته. يجب أن نسجّل بأنّ المنتجين وكبار المستهلكين ومستوردي النفط الخام في المناطق خارج الدولار، كالاتحاد الأوروبي، يتشاركون في المصالح. إذا انتقل تثبيت أسعار النفط إلى اليورو، فإنّ ذلك قد يسمح لهذه العملة بالوصول إلى مرتبة عملةٍ مرجعية عالمية. يوجد كذلك صلاتٌ تجارية قوية جداً بين أعضاء الأوبك ومنطقة اليورو - حيث أنّ أكثر من 45% من المستوردات الكلّية لخيرات بلدان الأوبك تأتي من تلك المنطقة. لا مانع من التذكير بأنّه لا مفرّ من حصول تغييراتٍ في إدارة الشؤون النفطية خلال السنوات القادمة وينبغي أن نحضّر أنفسنا لها.»

وفق العديد من المحللين، فإنّ الفترة المفصلية لهذا التغيّر قد تكون حين يتم توسيع الاتحاد الأوروبي في أيار من العام 2004، وهو أمرٌ سوف يرفع العدد الكلي للسكان إلى 450 مليون شخصاً مع ناتجٍ محليّ مقداره 6.9 مليار دولار مقابل 5.10 مليار و280 مليون دولار بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.

يصلح هذا التحليل أيضاً من أجل استخدام روسيا لليورو. يأتي 21% من النفط و41% من الغاز الذي يستورده الاتحاد الأوروبي من هذه الدولة. هنا أيضاً، ليس هناك مبرر لاستخدام العملة الأمريكية. إنّه جوهر الرسالة التي أوصلها رومانو برودي، رئيس اللجنة الأوروبية، إلى فلاديمير بوتين أثناء قمة روسيا والاتحاد الأوروبي التي انعقدت في أيار 2001. لقد حثّ الأوروبي نظيره على زيادة حصة اليورو في المدفوعات التجارية واحتياطي المصرف المركزي، ملوحاً بزيادةٍ في المبادلات بين المنطقتين وزيادةٍ في الاستثمارات الواردة من الاتحاد. واستنتج الرئيس الروسي: «الدور الهام الذي يلعبه الاتحاد الأوروبي في أوروبا وفي السياسة الدولية يدفعنا بصورةٍ موضوعية نحو تعاونٍ أوثق».

لقد بدأت الصين وروسيا بتحويل ممتلكاتهما المالية من الدولار نحو اليورو بهدف التوزيع بالتساوي بين العملتين. وكما فعلت العراق وإيران وكوريا الشمالية وروسيا والصين والعديد من الدول الأخرى، قررت فنزويلا أن توزع احتياطيها من سندات مصرفها المركزي ببيع الدولار وشراء اليورو. وزاد الطين بلّةً بالنسبة للولايات المتحدة انعقاد المؤتمر الدولي للتمويل قرب موسكو في السادس والسابع من آذار 2001، تحت شعار: «مسار العولمة والتهديد الخفي لأزمة سندات الاحتياط العالمية». في اليوم الأول، ألقى سفير فنزويلا في موسكو، فرانسيسكو مييريس لوبيث، مداخلة هامة حول موضوع قابلية التحول من الدولار نحو اليورو بهدف تثبيت سعر النفط. نذكّر هنا بأنّ ذلك الحدث قد جرى قبل عامٍ من الانقلاب الفاشل، وأنّ السكرتير العام للأوبك فنزويلي، وأنّ مداخلة السفير تأتي لتضاف إلى الاتفاق الذي عقده ذلك البلد مع ثلاث عشرة دولةٍ أخرى لمقايضة نفطها بسلعٍ أو خدماتٍ أخرى، بحيث جرى نزع الصفة النقدية جزئياً عن المبادلات النفطية لرابع أكبر منتج للنفط في العالم.

انهيار اقتصاد الولايات المتحدة

الاقتصاد الأمريكي مرتبطٌ بصورةٍ وثيقة بالدولار كعملة احتياطية وكعملةٍ دولية للتبادل. إذا قررت البلدان الرئيسية المصدرة للنفط والغاز التعامل باليورو كلياً أو جزئياً في مبيعاتها، فسوف تبيع الدول المستهلكة جزءاً من الدولارات الموجودة في احتياطيها لشراء اليورو. مع تناقص الحاجة الدولية للعملة الخضراء، سوف تنخفض قيمة الدولار - الذي يعتمد بشكلٍ كبير على سيطرته، ويحرم البلد بذلك من أهم منتجٍ تصديريٍّ له، وتكون الضربة شديدة بالنسبة لاقتصاد البلد الذي قد لا يعود قادراً على القيام بتوسعه الإمبريالي بعد حرمانه من سيطرته العالمية في مجال النقد والتجارة.

ل.س. ترودو

1  البلدان الأعضاء في الأوبك هي: فنزويلا، العراق، إيران، العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، قطر، الكويت، ليبيا، الجزائر، نيجيريا وإندونيسيا.

2 المقصود هنا الأرض الأوروبية.

3  اتفاقية التبادل الحر في أمريكا الشمالية وتضمّ كلاً من كندا والمكسيك إضافةً إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

4  دعا جورج بوش العراق وإيران وكوريا الشمالية «محور الشر» في خطابه السنوي حول وضع الاتحاد في التاسع والعشرين من كانون الثاني 2002.