لغز الحرب العراقية.. السيناريو الإسباني؟ هل ستكفي نقود أمريكا، لشراء كل الشعب العراقي؟


في الحرب العراقية هناك لغز ما. في بدايتها كان هنالك ثلاث وجهات نظر حول آفاقها:


■ الأولى، عبرت عنها القيادة الأمريكية والموالون لها، أن الولايات المتحدة ستنتصر بضربة  ساحقة واحدة عندما ستجتاز الحدود، وينهار الجيش العراقي، ويستقبل العراقيون، الغزاة الأمريكيين بابتهاج وترحاب.

■ وجهة نظر أخرى، أن الأمريكيين سيهزمون،لأنهم لا يعرفون القتال إلا مرفَّهين، دون خسائر، وفي حال مقاومة جدية سيهزمون لامحالة.

■ وجهة النظر الثالثة، أن الحرب ستكون قاسية، والضحايا كثيرون إلا أن الجيش الأمريكي بسبب تفوقه التكنيكي، سيحقق النصر بعد عدة أشهر.

لكن الأحداث نفت الاحتمالات الثلاثة، وتطوَّرت بشكل غير مفهوم...

مقاومة فعالة..

■ في المرحلة الأولى، قاوم الجيش العراقي بشكل فعال، لم يستطع الأمريكيون، سوى احتلال الصحراء، والمدينة الصغيرة، أم قصر.. وتورطوا في معارك على طول نهر الفرات.

ورغم التصريحات الإعلامية عن احتلال البصرة، وحتى الناصرية لم يحقق الأمريكيون نصراً حقيقياً واحداً، وفوق ذلك، بدأ يسقط لهم قتلى وأسرى، وتعامل الأمريكيون مع الأمر بجدية، وبدأوا بدفع قوى هامة إلى ساحة العراق.. وقبل أن تصل هذه التعزيزات إلى خط الحدود بدأ الوضع يتغير جدياً، ففي ذكرى انهيار الجمهورية الإسبانية في 1/ نيسان/ 1939 علمت القيادة الأمريكية بشيء ما، جعلتها تتصرف، حسب التقييم الأولي، بدون منطق.

الوعود.. وبعثرة المقاومة..

■ في الثاني من نيسان قامت مجموعة غير كبيرة، مؤلفة من سبعة آلاف عسكري، من الفرقة الثالثة، بقطع الفرات، عبر جسر غير محمي وغير ملغم في (الصبة) ولو قاتل العراقيون كما قاتلوا في الأيام الأولى، لكان من الممكن التكهن بأنهم استطاعوا التغرير بالطلائع الأمريكية، والتي سيقومون بذبحها في الليلة القادمة. وكان لهذا الافتراض عندئذ أساس جدي..

فالأمريكيون تقدموا دون حماية، وكان من الممكن تطويق المجموعة، وإيقاف تقدم بقية القوات.

تصرف القيادة الأمريكية، المغامر هذا، يمكن تفسيره بأنهم تلقوا وعداً، بأن الأمور ستجري على ما يرام لكن القيادة الأمريكية، لم تكن واثقة من صدق هذه الوعود، لأن شريكها المفترض، يمكن أن يغدر بها.

إلا أن المجموعة المذكورة، وصلت إلى المطار الدولي دون مشاكل.. هنا تأكدت القيادة الأمريكية، بأن شريكها ذو تأثير فعال، وهو لايستطيع شل المقاومة بشكل كامل، لكنه قادر على بعثرتها.

لم يضربوا العمق الأمريكي!!

ومع أن العراقيين، تجاوزوا الأمريكيين، عند اليوسفية إلا أنهم لم يضربوا العمق الأمريكي بجدية. استطاعوا فقط الحفاظ على قدرتهم القتالية، وحيث قاتلوا، تمكنوا من حرق الدبابات الأمريكية، والتقاط صور عليها. والأرجح أن القيادة العراقية كانت تظن، أنها تجر القوات الأمريكية حسب خطتها إلى الداخل، حيث تطبق عليها، وتوجه لها ضربة ساحقة قريباً.. إلا أن الأمريكيين، كانوا يرون أن الأمور تجري وفق خطة شريكهم.

حرق الدبابات وإسقاط الطائرات

■ في السادس من نيسان تجاوزت قوات أمريكية كبيرة ضفتي الفرات، وبدأ المراقبون، بنقاش موضوع إمكانية حصار بغداد. والرأي الذي كان سائداً، أنه حتى في ظل التفوق الأمريكي فإن احتلال أحياء بغداد السكنية لن يكون سهلاً، فالعراقيون برهنوا، أنهم يستطيعون حرق الدبابات الأمريكية وإسقاط طائراتهم، حتى في الصحراء، وبالأحرى في المدينة..

■ في الخامس من نيسان، أغار الأمريكيون على أطراف بغداد، كي يتأكدوا من عدم خداعهم، وتبين أن كل شيء طبيعي.

بداية اللغز!!

■ في السادس من نيسان يعمقون هجومهم، وهنا يندهش المراقبون.

الدبابات مكشوفة، فلماذا لايتم تدميرها من البيوت القريبة منها؟! إنه لغز!

الجواب بسيط، إن الذي كان يقود العمليات، لم يرسل بشكل واع أحداً لحرق الدبابات.

يوماً بعد يوم، خفت وتيرة المقاومة، على المحاور الأساسية للدفاع.

في الأطراف كان المقاومون الأبطال  يقاومون.

دخول بغداد دون مقاومة!!

■ في التاسع من نيسان يدخل الأمريكيون وسط بغداد دون مقاومة. كيف حدث ذلك؟!

طبعاً لدى الأمريكان تفوق عسكري، ولكنهم في التاسع من نيسان لم يطلقوا النيران، ولم تطلق عليهم النيران. فالقوى العراقية القتالية الأساسية، أخرجت من هناك.

تنفيذ شروط الصفقة!!

■ إن شريك الأمريكيين، قد نفذ شروط الصفقة. مجرى المعركة في بغداد، أحدث انهياراً معنوياً للمقاومة في المناطق والمدن الأخرى، فالأمريكيون كانوا يجهزون أنفسهم لربح المعركة عندما خسرها الجيش العراقي، فهناك احد ما، اتخذ قراراً واعياً، فبلغ العدو وسلم بغداد.

ومع كل ما يمكن أن يقال، حول استبعاد سير الأمور هكذا، لكنه لايجري للمرة الأولى. ولكن للمرة الأولى، تفتح البوابات بهذه السرعة.

إسبانيا.. والطابور الخامس

■ في 1/ نيسان/1939، انتهت الحرب الأهلية في إسبانيا. قائد دفاع مدريد وقف ضد الحكومة الجمهورية، وسلم العاصمة، واستطاع فرانكو الانتصار، بفضل الطابور الخامس.

قائد دفاع مدريد، الجنرال «لي سادو» كان له مبرراته وهي:

■ الجمهورية الإسبانية باتت دون دعم خارجي، ويعمل ضدها تحالف قوي في الغرب، داعماً فرانكو، من ألمانيا وإيطاليا والبرتغال، لكن «لي سادو» لم يكن ليعلم أن الوضع العالمي سيتغير بعد أشهر، وتبدأ الحرب العالمية الثانية.

كان يجب الصمود قليلاً، وكانت الجمهورية ستنقذ، ولكنه كان يريد عبر التخلص من الشيوعيين الذين كرههم فرانكو الوصول إلى سلام مشرف، مع فرانكو، وتقاسم السلطة معه، إلا أن فرانكو، استفاد من سلوك الطابور الخامس، وانفرد بالسلطة، والملفت للنظر، أن جزءاً من قوات «لي سادو» قاتل في مابعد فرانكو في حرب (الأنصار)، ولكن في ظروف الحرب العالمية التي اندلعت، لم يلحظ أحد هذه الحرب بعد الحرب.

مفارقات مجرى الحرب

بين آذار ونيسان

إن الأحداث في العراق، إذا لم نأخذ بعين الاعتبار، عنصر الطابور الخامس، تظهر مفارقات غريبة، فمجرى الحرب في آذار لايتوافق مع مجراه في نيسان، ولكن إذا أدخلنا هذا العنصر، يصبح كل شيء منطقياً، ففي آذار، كان الشريك في طور المساومة.

البخشيش والمبادئ!!

في العالم العربي هنالك عالمان، الأول مؤسس على فكرة الروح الوطنية و الوحدة العربية، والثاني مؤسس على روح التجارة حتى بيع كل شيء.

ففي أواسط القرن الماضي، رفع الرئيس المصري، علم الروح الوطنية والوحدة العربية فوق العالم العربي، ولكن خلفه السادات، فتح عصر المتاجرة، حيث يعيش البعض، متاجرين على كل دولار، حصتهم من «البخشيش». ولم يكن العراق، بعيداً عن روح البخشيش، فالدولة فيه برجوازية بيروقراطية، يمكن  أن يوجد فيها دائماً من يمكن المتاجرة معه. فهؤلاء مستعدون أن يتاجروا حتى بفكرة الوطن والوحدة العربية إذا كان لها ثمن.

وهؤلاء التجار، لطالما نظروا بحسد إلى واقع زملائهم المصريين، وينتظرون لحظتهم بلهفة، لقد انتصر البخشيش على المبادئ…

إن نهاية المعركة في العراق، شبيهة إلى حد كبير، بنهاية المعركة في إسبانيا، والأرجح أن مجموعة ما حول صدام عندما قيمت الوضع، ورأت أنه في ظروف غياب الاتحاد السوفييتي، عندما بقيت وحدها وجهاً لوجه مع التحالف، ورأت أن لا آفاق للمقاومة  الطويلة، وقررت أن تسلم نظام البلد مقابل البخشيش.

ولو لم يحصل الأمريكيون على إيقاف مفاجئ للمقاومة في بغداد، لم يكونوا ليخاطروا، بعد إخفاقات أواخر آذار، في التورط في عش النحل البغدادي.

أجهزة الإعلام العالمية تؤكد أن الجنود الأمريكيين متعبون وهم غير قادرين على القتال في ظروف مقاومة طويلة. وهم الآن سعداء ومدهوشون.

لقد سلمت بغداد لهم، من سلمها؟.. بماذا وعدوه؟.. بالسلطة؟!!

قريباً من الممكن أن نرى بعض القادة السابقين النافذين في حكومة العراق الحر. أو أنهم اكتفوا بالنقود فقط. فعندما تكون النقود كثيرة، فهي عند البعض أقوى من فكرة الكرامة الوطنية.

المقاومة ستنتصر..

لقد أتت أمريكا إلى العراق، بحرية الحصول على البخشيش، وتجسد هذا الأن في النهب الشامل، ولكن عندما يتوقف هذا النهب، هل ستكفي نقود أمريكا، لشراء كل الشعب العراقي؟

عندما لن يكفي البخشيش المتأتي من النفط والسياحة، ستنتعش الروح الوطنية، التي في ظروف وواقع إهانة كل الشعب العربي، ستجد التجلي الرائع لها. وإذا ماانطلقت في العراق حرب معادية للإمبريالية والاستعمار سيتحطم كل تجار النفط والأوطان…