الرأسمالية تعاني أزمة عميقة الجذور الخروج من الرأسمالية يتطلب انتزاع السلطة من القوى المالية

■ الربح الرأسمالي على حساب الطبيعة وبؤس البشر

■ أحداث 11 أيلول كاشف لتناقضات الرأسمالية

■ صندوق النقد الدولي يٌغرق الناس في التعاسة

■ الفقاعات انفجرت من فرط انتفاخها

■ حسابات مزورة ـ تواطؤ ـ عمليات دمج مهووسة للشركات الكبرى

■ علاقات مريبة للسلطة مع الشركات العملاقة

■ التزوير والتهريب يدمران الرأسمالية

■ الفساد والتزوير نتيجة طبيعية لهذا النظام

■ عندما تنفجر فقاعة الهواء تبقى الديون

■ رأسمالية الأسهم متناقضة مع التحول التكنولوجي المعاصر

كانت البداية جيدة جدا. على عتبة الثمانينات كان عالم آخر يرى النور. رونالد ريغان ومرغريت تاتشر يقودان شعبيهما الى تخوم الارض الموعودة بفضل تطبيقهما الوصايا العشر لـ «تسوية واشنطن». كان الانبياء في حالة من الغبطة: فريدريك حايك، العجوز، يرى في هزيمة الدولة ضربة نهائية لـ«دروب العبودية»، بينما يرى ميلتون فريدمان في حرية الحركة للرساميل بالتزاوج مع اسعار القطع العائمة ضمانا لثبات الاقتصاد. اما فرنسيس فوكوياما فيرى التاريخ البشري قد انجز مساره ليحل محله «عهد الحسابات الاقتصادية والسعي اللامتناهي وراء الحلول التقنية». انها السعادة.

 انطلقت «حلقة فاضلة» جديدة تملك فيها الاسر حصة من الاسهم التي ترتفع قيمتها مع ازدياد الآمال المعقودة على مستقبل التقنيات الجديدة. ينتج من ذلك «اثراء» يزيد من نفقات الاسر مما يعطي دفعا للنشاط الاقتصادي ويرفع قيمة الاسهم فيزيد الطلب عليها الخ... قبل ان تسجل دولارا واحدا في خانة الارباح كانت شركات من امثال «أمازون» او «اميركا اون لاين» تتقدم في البورصة على تكساكو او جنرال موتورز.

 لكن هذه الفقاعات انفجرت في النهاية من فرط انتفاخها ليتبين انها مملوءة هواء. اول انهيارات سوق الاسهم حصل في قطاع التقنيات الجديدة وفقد مؤشر الناسداك 62 % من قيمته ما بين آذار/2000 وآذار/2001،  ثم انتقلت الظاهرة الى الاسهم التقليدية وخلال سنتين (من آذار/2000 الى الشهر نفسه من العام التالي)  تراجع مؤشر SP500  للشركات الاميركية الخمسمئة الاولى في وول ستريت بنسبة 50% بينما تراجع المؤشر الفرنسي العام CAC40  ومؤشر الشركات الاوروبية الخمسين الاولى Eurostoxx بمعدل 30%.

لكن الاقتصاد الحقيقي بدا اكثر صلابة. وبالرغم من تراجع الموجودات في سوق الاسهم حافظ الاستهلاك والاستثمار على مستوياتهما. وتمكنت اداة الانتاج الاميركية ان تبرهن بسرعة غداة أحداث11 ايلول انها قادرة على التماسك بصورة مذهلة حيث فوجىء الجميع بتسجيل الفصل الاخير من العام 2001 ارتفاعا بنسبة 4،1% للناتج القومي الخام في المعدل السنوي. وابتداء من كانون الثاني 2002 بدأت البطالة بالتراجع من جديد والاجور عادت الى الارتفاع. وفي السابع من آذار/2002 اي بعد أقل من ثلاثة أشهر على الافلاس المدوي لشركة تسويق الطاقة «انرون» كان رئيس الاحتياطي الفيديرالي، السيد الن غرينسبان ما زال يعبّر عن تفاؤله بالقول: «لقد واصلنا النمو». تبين فيما بعد ان الوقائع ليست باهرة الى هذا الحد، فبحسب وزارة التجارة الاميركية لم يرتفع الناتج القومي العام الا بنسبة  0.3% عام 2001 بدل نسبة 1.2 المعلن عنها. كذلك فإن التباطؤ كان ملحوظا في العام 2002.  

ذلك ان الصدمة طالت شركات اخرى مثل «اندرسن» للمحاسبة المتواطئة مع «انرون» ومجموعة «زيروكس» المتخصصة في آلات النسخ وتجمع شركات «تيكو» وعملاق الاتصالات «ورلدكوم» و«ميريل لينش» اول شركة للخدمات المصرفية في العالم والمتورطة ايضا مع «انرون»، اضافة الى «فيفندي يونيفرسال» في فرنسا... كشفت هذه الافلاسات الستار عن ممارسات مريبة مثل الحسابات المزورة والتواطؤ وعمليات الدمج المهووسة وبدلات الاتعاب الكبيرة وغير المبررة للمسؤولين، مكافآت على شكل حزمات اسهم تماما قبل انهيار الاسواق وخسارة الموظفين لمدخراتهم، علاقات مريبة مع السلطة التي ساهمت شركة «انرون» مثلا في تمويل حملتها الانتخابية. انها حالة تجاوز كامل لقواعد الشفافية والاستقامة المفترض بها تأمين المصداقية للاسواق المالية. وعندما حاول الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني طمأنة الرأي العام، اجابهم بعض اصحاب النيات السيئة انهما باتا يدينان ما كانا يمارسانه في الامس ضمن اطار شركة «هاركن» للطاقة او «هاليبورتن».

 تراجعت الثقة وكان المنعطف الحاسم في تصريح للسيد غرينسبان: ان التزوير والتهريب يدمران الرأسمالية وحرية عمل الاسواق وبشكل اوسع اسس مجتمعنا«. وبالفعل فإن مؤشر ثقة المستهلكين الصادر في تموز/2002 عن معهد Conference Board يظهر تراجعا بنسبة 2.9 في المئة وفي ما يخص الاستثمارات، وكما يوضح احد الاختصاصيين المعروفين، »اهتزت ثقة الناس بأسواق الاسهم ويلزم سنوات لاستعادتها». انه الانقلاب. ترتد الازمة من الاقتصاد الحقيقي الى سوق الاسهم لتعود من جديد وعبر تآكل الموجودات المالية وسوق الاسهم الى الاقتصاد الحقيقي الذي ينقل عدوى الوهن الى قيم الاسهم الخ... النمو يتراجع في الولايات المتحدة كما في اوروبا، تتكاثر حالات الصرف من الخدمة ومن هزة الى هزة يستمر التراجع في البورصات.

وبما ان المطلوب اولا طمأنة النفس من خلال طمأنة الآخرين، لا تعيد السلطات النظر في منطق النظام:

■ نسبة الفوائد: منخفضة كثيرا في الولايات المتحدة حيث لم يعد من هامش للمناورة امام الاحتياطي الفيديرالي بعد احد عشر خفضاً متتالياً لهذه الفائدة المرتفعة جدا في اوروبا وحيث المصرف المركزي لا يهتم الا بمحاربة التضخم فيهمل النمو.

■ تجاوزات رؤساء مجالس الادارة المسؤولين عن كل هذه الاختلاسات. يؤكد السيد غرينسبان: «اذا توصلنا الى حل لمشكلة رؤساء مجالس الاداراة ستزول باقي المشاكل» بينما يعلن الرئيس الاميركي عن «شرعة اخلاقية جديدة تزيد من ثقة المستثمرين وتجعل العاملين فخورين بمؤسستهم وتعيد الثقة الى الشعب الاميركي». لكن المشككين المجربين يبتسمون ساخرين...

■ اختلال النظام: النقص في شفافية الاسواق المالية، تبعية اعضاء مجالس الادارة للنشاطات التي يشرفون عليها، تكاثر انظمة المحاسبة، تداخل مكاتب المحاسبة او الاشراف مع الشركات المفترض بها ممارسة الرقابة عليها، ضعف سلطات الرقابة على سوق الاسهم (في الولايات المتحدة SEC  او في فرنسا COB)...

تكفي ازاحة بعض عناصر السوء وتسوية بعض الانحرافات لكي... تستقيم الامور. 

بيد ان التطورات اللاحقة تدعونا الى المزيد من التدقيق في المجريات. تجعلنا (نتساءل اولا اذا كان الفساد والتزوير مجرد خلل مستنكر في النظام ام بالاحرى النتيجة الطبيعية لهذا النظام) الذي يحتل فيه المال المكانة الاعلى. أليس التعطش لتحقيق نتائج مالية (15% من المردود للرساميل) هو الذي دفع الشركات الى تشجيع «النمو الخارجي» من خلال عمليات الدمج الضخمة التي تفشل؟ أليس التلاعب بأرقام المحاسبة ناتج من كون اعادة رسملة الشركات مرتبطة بتحسن اسعار اسهمها في البورصة وان هذا التحسن مرتبط بدوره بالنتائج التي تحققها الشركات على المدى القصير؟ ألا تمثل الاهمية المفرطة التي تتخذها مكافآت المسؤولين على شكل حزمات الاسهم سببا اضافيا بالنسبة للبعض للقبول بإغراء التزوير في الارقام من اجل تعزيز موجوداتهم الشخصية؟

كما ان هذه التطورات تظهر لنا في المرتبة الثانية التناقضات البارزة في صلب آليات النمو. لا شك ان هذا التوسع يرتكز على التقدم الكبير الذي حققته الولايات المتحدة في مجال التكنولوجيا اللامادية. لكن التضخم المهووس لقيمة الاسهم التكنولوجية هو في المقام الاول ثمرة نهج ليبيرالي متطرف يفتح المجال واسعا امام المضاربات. وعندما تنتفخ الفقاعة تلجأ الشركات للاستدانة من اجل الاستثمار وعندما تنفجر الفقاعة تبقى الديون وهي ليست افتراضية.

ان شراء الشركات لاسهمها الخاصة من اجل دعم تسعيرها في البورصة ليس بالظاهرة الصحية. اما استدانة الاسر التي تدعم الاستهلاك فلا يمكن ان تستمر الى ما لانهاية. يبرهن اندريه غورز ان نسبة استدانة الاسر سوف تبتلع ربع مداخيلهم المتوافرة بين ايديهم عام 2004 حتى ولو تراجعت نسبة الاستدانة من 4 الى 2.5% يضاف الى ذلك ما يتهدد صناديق التقاعد الاميركية من خطر والتي ذابت موجوداتها المالية مع الازمة التي عصفت بسوق الاسهم.

 من اجل التمكن من زيادة استثماراتها دون خفض استهلاكها، على الولايات المتحدة مضاعفة استدانتها الخارجية بنسبة 400 مليار دولار سنويا مما يؤدي الى شفط رساميل ضرورية لتنمية بلدان اخرى كما تجعل البلد المدين ضعيفاً تجاه دائنيه. 

أخيرا، وخلافا للافكار الشائعة، أليست رأسمالية الاسهم غير متكيفة اصلا مع التحول التكنولوجي المعاصر؟ ان وسائل الاتصال تجعل من العالم وحدة منظمة ضمن شبكات متواصلة في اللحظة ومرهونة بعضها للبعض الآخر. ان التحديات التي يواجهها الاقتصاد تفترض انفتاحا طويل المدى على المجال الحيوي (الايقاع الذي تتم بموجبه اعادة تكوين الموارد القابلة للتجدد، التنوع البيولوجي، تسخن المناخ...) وانفتاحا على القيم الانسانية بدل التركيز فقط على الاداء الفعال لآلة الانتاج.

ازاء هذه التحديات يكتفي النظام بالانطواء الضيق على منطق الاداة المالية وحده. فيصبح عندها المدى الطويل «الدقائق العشر التالية» كما أكد لجيمس توبن احد رجال المال في سياق اثبات واقعيته. والآلة الاقتصادية تهتم فقط لانتاج الريع ولو على حساب تصحير الاراضي والتسبب في تدهور الطبيعة وتدمير الثروات وتحويل البشر الى بؤساء.

يبرهن جوزف ستيغليتز كيف يقوم صندوق النقد الدولي، «الإطفائي ومشعل النار» معا، بالتسبب هو نفسه بالمشاكل التي يفترض به محاربتها وذلك عندما يفرض على البلدان الاكثر فقرا منطقا ماليا بحتا. ففي اي بلد تظهر فيه الازمة ويحتاج فيها الاقتصاد الحقيقي الى السيولة، يفرض صندوق النقد قيودا تغرق الشعوب في التعاسة... لكنها تؤمن سداد الدين. تتم التضحية بالاستثمارات ذات المردود المؤجل (البنى التحتية الاقتصادية والتربية والصحة الخ...) التي لا غنى عنها من اجل الانطلاقة الاقتصادية، وذلك في سبيل الحصول على فائض في الموازنة يصار من خلاله الى سداد الدين. هكذا تخنق خطط الاصلاح البنيوي البلدان التي تدعي مد يد المساعدة اليها... والارجنتين كانت لها تجربة في هذا الباب.

ينتج من هذه التناقضات الجوهرية عجز يمنع النظام من ضبط الاقتصادات الحديثة. وهو ما نشهده من اختلال ليس مجرد حوادث عابرة ولو انها لا تتجه نحو «الانهيار الكبير». وأحداث 11 ايلول/2001 ليست سوى سبب يمكن اعتباره هامشيا أو مسرِّعا وكاشفا للتناقضات التي كانت تعتمل داخل النظام. فالازمة هي بالتحديد ازمة نظام.

 

 عبثا يتم اللجوء الى الابتهالات والحيل والترقيع. لكن حذار من الخطأ، فالميزة الاساسية للرأسمالية، وبسبب الحيز الذي تتركه لتعدد المبادرات الفردية، تكمن في قدرتها على استخدام الازمات كي تتجدد. ان الخروج الفعلي من رأسمالية «الاسهم» لن يأتي كعطية من السماء بل يتطلب تخطيطا لانتزاع السلطة من أيدي القوى المالية وبالتالي تعديل منطق النظام.

■ رينه باسيه

■ استاذ شرف في جامعة باريس،

 الرئيس السابق للمجلس العلمي لمنظمة

 «اتاك» المناهضة للعولمة.