فوز حماس ... دروس وعبر !
انتهت الانتخابات التشريعية الفلسطينية دون أن يعكر مسارها أية أعمال عنيفة، وجاء الفوز الكبير لحماس، مفاجأة للعديدين من المراقبين، على الرغم من التوقعات بتفوق الحركة الشابة التي لم يتجاوز عمرها العشرين عاماً، لكن جذور امتداداتها تعود لوجود «جماعة الإخوان المسلمين» في فلسطين.
المقاعد الأربعة والسبعون التي احتلها مرشحوها، مضافاً اليها أربعة مقاعد لمرشحين «مستقلين» دعمتهم الحركة، ثلاثة في غزة والآخر في طولكرم، تشير إلى تحكمهم بالأغلبية داخل المجلس. المفاجأة أيضاً أصابت قيادات الحركة وجمهورها.
رئيس المكتب السياسي للحركة «خالد مشعل» قال خلال مؤتمره الصحفي قبل أيام (إن نسبة الفوز جاءت أعلى مما توقعه الكثيرون، وربما نحن أيضاً ).
مع إعلان النتائج تكون التجربة السياسية / الكفاحية الفلسطينية قد دخلت مرحلة جديدة، من حيث نوعية قيادتها، ومضمون برنامجها، وطبيعة رؤيتها لأية حلول مستقبلية مع أطراف الصراع الاقليمية والدولية. واذا كانت لدى العديدين أية مخاوف من طبيعة الخطاب السياسي لحماس المرتكز على العديد من الثوابت _ التي تخلى عنها البعض_ في مجابهة الاحتلال، فقد قدم رئيسها في مؤتمره الصحفي الأخير، مرونة واضحة، اعتبرها البعض، بداية التناغم مع الاستحقاقات المرتبطة بالقضية اقليمياً ودولياً (بالتأكيد نؤمن بالمرحلية والتدرج والواقعية ونستطيع انجاز حقوقنا خطوة خطوة، ونقيم دولتنا شرط أن تكون ذات سيادة) إن الاشارات التي أرسلها «مشعل» و«موسى أبو مرزوق» مؤخراً، كانت رسائل تطمين لكل الذين وضعوا حماس في دائرة العدمية والتشدد، خاصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، اللذين بادرا بشن تهديدات ضد الشعب الفلسطيني بوقف المساعدات والمنح، كعقاب له على اختياره الحر لحركة المقاومة الاسلامية.إنه الفهم الاستبدادي للعملية الانتخابية، فنجاح المرشحين الموالين للسياسة الرأسمالية المتصهينة، إنجاز حضاري وديمقراطي (حملة الوشاح البرتقالي) في بعض دول الأطراف، الدائرة حول المركز الرأسمالي.
الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي «خافيير سولانا» قال: (إنه ينبغي تجنب الاعتراف بمجموعة ارهابية لمجرد أنها فازت في الانتخابات).
إنه الصدى لكلمات جورج بوش وتصريحات كونداليزا رايس، المتطابقة جميعها مع موقف حكومة العدو الصهيونية. الدول الاستعمارية لن تفهم أبداً، أن الوطنية والديمقراطية شرطان متلازمان في تجارب الشعوب، ففي الحديقة الخلفية للبيت الأبيض، قارة امريكا اللاتينية، انتصر الوطنيون التقدميون، أعداء التوحش الرأسمالي، عبر صناديق الاقتراع، في فنزويلا، بوليفيا وتشيلي، تحت نظر ومراقبة مندوبيهم من أمثال «جيمي كارتر».
لقد جاء الفوز الكبير لحركة حماس، مستنداً على تاريخها النضالي، فآلاف الشهداء الذين قدمتهم حماس من المؤسسين إلى القاعديين، والجمهور الواسع الذي ارتبطت به من خلال موقف المواجهة، السياسي والقتالي مع العدو، إضافة لبرنامج العمل الاجتماعي المتنوع الذي يغطي احتياجات آلاف الأسر الفلسطينية، متضافراً كل هذا بنشطاء يمتلكون العلم والمعرفة والتواضع، ليؤسس كل ذلك لعوامل النجاح الباهر لها. ولهذا كله كافأ الفلسطينيون حماس.
لقد خسرت حركة فتح (العمود الفقري للمنظمة، حزب السلطة) دورها القيادي/ الريادي الممتد منذ عدة عقود. الفلسطينيون أعلنوا رفضهم، عبر صناديق الاقتراع، لكل الاتفاقات المشؤومة_ من أوسلو إلى شرم الشيخ _ التي كبلتهم، لأنها سرقت أرضهم ومياههم، واستباحت دمهم، ووضعتهم على طريق دون خارطة أو دليل، ليتأكد لهم، ولقائدهم المغدور «أبو عمار» أنه طريق مسدود.
إنسداد الأفق السياسي، ترافق مع أخطاء، بل خطايا، على أرض الواقع وبين الجماهير. تنظيم الحركة، الهلامي أساساً، ضاعت في سجلاته، صفات المناضلين الذين يحملون روحهم على كفهم، مع آلاف الموظفين في الحركة.
تلاشت المحاسبة، وتداخلت المسؤوليات لتتحول إلى «محسوبيات»، استشرى الفساد المنظم، الذي تنتجه وتديره، مراكز قوى موزعة مابين التنظيم والأجهزة _ التي هي امتداد للأول، غابت المؤتمرات الداخلية، تضاءلت التعبئة الوطنية، انتعشت الانتهازية والسمسرة. كانت رمزية أبو عمار ورقة التوت التي تستر كل العورات، وكانت تحفظ التوازن بين هذه المتناقضات، وفي أحيان كثيرة، تعيد انتاجها بأشكال جديدة.في مراحل متعددة، ارتفع صوت المناضلين من أجل تصويب المسيرة، لكن حشرجة حناجر الآخرين التي تطالب بـ«الاصلاح» كما حصل في تموز / يوليو 2004 في غزة، أضاعت وهج وصدقية الدعوة للمحاسبة والتطهير.
لقد سقطت من عقول ومشاعر الشعب «حركة أول الرصاص» لأنها تحولت على يد الفاسدين _المرتبطين بالخارج وببورصة المضاربات، المهرولين إلى كازينو أريحا وموائد يوسي بيلين وأيالون وموفاز_ إلى تكتلات تدير الاستثمارات فقط. أما القابضون على جمر القضية،على سلاحهم المشرع بوجه العدو_هذا السلاح الذي لم تلوثه «الزعرنات» واستعراضات المظاهر الفوضوية، كما حصل منذ أيام في ردات فعل بدائية تقودها رموز الفساد في أكثر من مدينة_ فمازالوا حراس الحركة الأصيلة. لقد غاب عن ذهن المراكز القيادية الفتحاوية، ماأفضت إليه نتائج انتخابات المجالس البلدية، خاصة المرحلة الرابعة، من هزائم مدوية لمرشحي الحركة، مما شكل مقدمات لماحصل بالانتخابات التشريعية.
حركة فتح لم تكن الخاسرة الوحيدة. أحزاب وقوى وطنية أخرى انكشفت أحجامها. قائمة «البديل» المؤتلفة بداخلها الجبهة الديمقراطية وحزب الشعب والاتحاد الديمقراطي الفلسطيني _ فدا_
حصدت نتائج أخطائها المزمنة (مقعدان فقط للقوى الثلاث). الجبهة الشعبية، المنظمة العريقة ذات التاريخ المتوهج سياسياً وكفاحياً على مدى عدة عقود، التي قدمت أمينها العام «أبو علي مصطفى» شهيداً، وأمينها العام الحالي «أحمد سعدات» معتقلاً في سجن أريحا، ونائبه «عبد الرحيم ملوح» أسيراً لدى الاحتلال، وهي التي نفذت واحدة من أعقد وأجرأ العمليات الكفاحية بالداخل (إعدام المجرم رحبعام زئيفي) لم تحصل سوى على ثلاثة مقاعد! إن هذ الانتكاسات تتطلب من الجميع وقفة نقدية جادة، لتحديد مكامن الخلل من أجل تجاوزه، ليس من أجل مقاعد أكثر في معركة الكراسي، بل من أجل بناء وترسيخ نهج سياسي / كفاحي يستند للمبادىء الوطنية والقومية بآفاقها التقدمية.
لقد توهم البعض من دعاة «ماكان ينبغي حمل السلاح» المدعومين من المؤسسات الرأسمالية، المتخفية تحت أسماء هيئات تطوير وتنمية المجتمع، أنهم قادرون على الوصول لمقاعد المجلس بأكثر من عشرة أعضاء، لكن شعبنا الذي اكتوى بنار السياسة الأمريكية المتطابقة مع حكومة العدو، أسقط من حساباته كل دعاة الرهان على أموال ودعم «الآخر ».
إن النتائج المترتبة على الوضع الجديد، تتطلب من الحركة الفائزة، أن تقرأ بدقة وموضوعية أسباب نجاحها، الذي يأتي في مقدمته، استمرار المقاومة وتطوير أشكالها، المسلحة والجماهيرية لأن مقاعد الحكم، ولغة السلطة، وأساليب التعامل مع الاستحقاقات المحلية والاقليمية والدولية، يجب أن لا تدفع الذين تَحَمَلوا القيادة، لأن يُسقطوا من برنامج عملهم، العامل الأساس الذي شجع الشعب على انتخابهم، وهو استمرار مقاومتهم للمشروع الصهيوني. إن التوقف عند دراسة تجربة حركة فتح في قيادتها للسلطة ومؤسساتها، والمقارنة بين برنامجها السياسي وماحققته رهاناتها على الاتفاقات، ستنير للقيادة الجديدة طريق المستقبل.
■ محمـد العبـد اللـه