الجولان وأكواخ الصفيح

((إن التاريخ الاثني هو تاريخ الجماعات المستثناة من المعرفة ومن الثقافة العالية والسلطة، هذا التاريخ لايعثر عليه في وثائق الجامعات وسجلات الحكومة بل حيث يتجمع الناس... انه الحكايات التي يرويها الأهل لأطفالهم ليلا انه ذكريات الشيوخ والعجائز، وكم لهذا التاريخ غير المكتوب من قيمة))

كانت البنية الاجتماعية في الجولان فلاحية في القطاع الجنوبي واقصى القطاع الشمالي , وزراعية رعوية بطابع بدوي في القطاع الأوسط والشمالي,  ونمط الإنتاج في الجولان عموما إقطاعي حيث كان الملاكون يحصلون على جزء من المحصول عند نهاية كل موسم, وهم جزء من النسيج الاجتماعي لأهل الجولان وهي صفة مميزة عن النظام الإقطاعي الذي كان سائدا في بلاد الشام وهو مايسميه ماكس فيبر ( إقطاعية الوقف ) حيث تضعف الروابط بين الإقطاعيين والفلاحين ,  وهذا العامل خفف من أشكال الاضطهاد المباشر التي مارستها الإقطاعية في الجولان على الرغم من سيادة الفقر والقهر والجهل , كانت هناك منظومة قيم جماعية مبنية على التضامن تجعل من القرية أو العشيرة والحمّولة بيئة دافئة حميمية مستقرة تعطي الشعور بالأمان والانتماء فقد كان يطلب من كل فرد أن يستجيب فورا ودون تردد عندما يدعى لأداء أي واجب تجاه القرية أو العشيرة مثل بناء بيت في يوم واحد لشاب مقبل على الزواج أو الدفاع والهجوم في مشاجرة جماعية تخوضها القرية ضد قرية أخرى . كان المجتمع القروي مجتمعاً شبه مغلق على ذاته إذ لا احتكاك مع المدينة إلا في الحالات الطارئة وكانت مدينة القنيطرة أقرب إلى بلدة كبيرة تشكل مركزا لتبادل المنتوجات والسلع .

دخل التعليم الرسمي والإصلاح الزراعي في الخمسينات فاتحا الأفق لتغييرات مهمة منها التوجه نحو التعليم فكانت  تشترك عدة قرى في مدرسة واحدة نظرا لقلة عدد سكان القرية التي لم يتجاوز سكانها بضع مئات. مما يحمل الطلاب مسير عدة كيلو مترات في الذهاب والعودة من المدرسة مشيا على الأقدام وفي ظروف مناخية صعبة. ماكان للجيل الذي دخل المدرسة إن ينهي تعليمه، فقد جاء الاحتلال وبدأت مرحلة جديدة. لم يخطر ببال احد من سكان الجولان أنه إذا غادروا منازلهم فإنهم يغادرونها دون عودة كل مافي الأمر أنهم كانوا يبحثون عن مكان يلتجئون إليه ريثما تنتهي الحرب وان يعيد الجيش الهارب أمامهم ترتيب صفوفه ويعود ليحرر فلسطين. لم يعرفوا إن أمامهم ظروفاً هي من القسوة بحيث تجعلهم يميلون إلى طمس وضع الفقر والقهر الذي كانوا يعيشونه ويشبهونه بالجنة. الماضي صار يعني الجنة مقارنة بظروف الحياة في أكواخ الصفيح والأمكنة التي التجؤا إليها. احد هذه الأمكنة يحمل اسما بالغ الدلالة عن هذه الظروف ( الزفّتيية ) وهي كانت جزءاً من حي الميدان في دمشق. بدأ صراع مرير مع الحياة إذ لايوجد الحد الأدنى من الخدمات في أمكنة اللجوء وكان عليهم خلق ظروف بائسة حسب الإمكانيات لبناء إمبراطورية الصفيح. عاش النازحون في السبعينيات في عزلة اجتماعية عن محيطهم يعود جزء منها إلى اختلافات ثقافية «اللهجة و اللباس وطرق المعيشة اليومية» والقسم الأهم منها هو رفض هذا المحيط لهم إلى الانطواء والإحساس بالعار لخسارتهم أرضهم وقد آذاهم التشهير أكثر مما آذاهم الفقر مضيفا الكثير إلى شعورهم بالضياع وأكثر الاتهامات إيلاما الاتهام بأنهم هربوا بجبن من أراضيهم، وقد تجذرت هذه الحواجز بطريقة مذلة فقد أصبحوا أناساً مختلفين لهم هويتهم الخاصة ( نازحين ) وأماكن سكن خاصة ( تجمعات ) بقيت الذاكرة الجماعية محمولة إلى تجمعات النزوح التي قامت على أساس القرابة والانتماء إلى قرية واحدة فحافظت هذه الذاكرة على منظومة قيم مثل حسن الضيافة والكرم والشهامة والتي يتميز بها كل مجتمع ريفي متجذرة في الوجدان وروح التضامن الجماعي والتي لم تكن تعبر عن نفسها إلا ضمن الحدود البالغة الضيق التي يرسمها الشعور بالعجز ولكنها فعالة في تعزيز احترامهم لأنفسهم أو كسب انتصارات صغيرة عابرة تشكل ردة فعل على ظروف حياتهم وتعكس حجم العنف الكامل والذي يتفجر بعدوانية تجاه المحيط .

الجيل الذي لم يعمل إلا في أرضه تحول إلى عاطل عن العمل والباقون أمامهم خيارات محدودة العمل العضلي وأعمال البناء خصوصا والعمل في قطاع الخدمات والأعمال الهامشية على أرصفة الطرقات والجيل الذي أنهى لتوه قصة كفاح حصوله على الشهادة هو الذي قدم أول دخل ثابت ومستقر. وفي بداية الثمانينات قدمت الدولة أراضي للجزء الأكبر من النازحين لينهار جزء من إمبراطورية الصفيح ويتحول إلى سكن غير منظم يملك خدمات جيدة وتبدأ مرحلة جديدة. يتحول الغالبية إلى جيش من الموظفين   مع دخول أجيال متعلمة وجزء التحق بالجيش وأجهزة الأمن التي تضخمت في تلك الفترة وجزء أخر تخصص في التهريب. وتوزعت الفئات من حثالة بروليتاريا إلى شرف الانتماء للبرجوازية الصغيرة.

ماكان لوعي سياسي إن يولد في أكواخ الصفيح فالصراع المرير مع الحياة لم يولد إلا عفوية ناقمة على كل شيء وفردية كانت تكفي مشكلة صغيرة مع الأسرة لشاب يافع إن يلتحق بالعمل الفدائي في جنوب لبنان. ومع التحولات في بداية الثمانينات قد تغيرت ظروف السكن والالتحام بالدولة وأجهزتها، اصطبغ المستوى السياسي بلون واحد هو لون فرصة العمل المستقرة وفي الظل عفوية ناقمة على كل شيء تعبر عن نفسها بتعابير واهية فعندما يراد التعبير عن شيء ضاع ولن يعود يقال ضاع مثلما ضاعت الجولان, وعندما تمر ذكرى استشهاد ضرار بن الأزور يكسو الحداد تجمعات النازحين وتعم الأفراح في ذكرى معركة عين جالوت وفي هذه الثنائية يتشرد الوعي بين وظيفة يحرصون عليها ويتماهون بها للتعويض وللمبالغة بشرف الانتماء للبرجوازية الصغيرة وارض محمولة على الأكتاف يئنون من ثقلها منذ عقود.

ويظل التقديم الرسمي لقضية الجولان بغير المضمون الإنساني الاجتماعي بعيدا عن الجماهير صاحبة المعاناة  الأساسية

 

■ بسام عيسى