الاستقواء بالحضيض ( الجزءالأخير)

كرد فعل على الانتهازية، يميل الناس عندنا عادة إلى احترام المعارضة بسبب تضحياتها بغض النظر عن قضيتها. وإنه لمن الأمور الخطيرة أن السياسة، خاصة المعارضة منها بما هي هدم وبناء، أكثر من أي شيء آخر، تحتاج إلى النظافة وتوازن الشخصية والثقافة العميقة الواسعة . وهذا ما لا يتوفر بالضرورة في كل معارضة 

فقد تسعى المعارضة إلى الأسوأ مستغلة انفعالات الناس فلا تستطيع تبرير سياستها إلا بأخطاء السلطة. هذه المعارضة خطيرة، بل إن المعارض ـ وإن كان نظيفاً متوازناً ـ ستكون معارضته خطرة ما لم يمتلك الوعي الكافي، لأنها لن تعدو كونها هدماً عبثياً أو فرصة لتفريغ الشحنة العدوانية لدى أولئك الذين لا يتوازنون إلا إذا تناولوا شخصاً أو قرية أو طائفة أو قوماً إلخ ..

      افتتاحية العدد 33 من  «الرأي» هي اليتيمة التي تسمح لأصحابها مستقبلاً بالقول: إننا نتحدى المتقولين، فلقد رفضنا التدخل الأجنبي. فلنحاول حذف الإنشاء والحشو والتكرار الممل عن القمع والتغيير لنر ماذا يبقى .

1ـ الكل يتغير في المنطقة إلا النظام

2 ـ التغيير ليس خياراً، إنه فعل ضرورة.. إثر سقوط الاتحاد السوفييتي.. أصبح التغيير في بلادنا ضرورة موضوعية تتطلبها الظروف الدولية الجديدة.

3ـ بدأ النظام خطوات وئيدة للتلاؤم مع الواقع الجديد عبر انخراطه ضمن التحالف الأمريكي في حرب الخليج الأولى، واستجابته لعملية السلام في مدريد، وخطواته المحسوبة مع الأمريكيين ومن خلالهم مع الإسرائيليين على طريق استكمال مشاريع التسوية في المنطقة، لكنه اكتشف أن كل ذلك لا يكفي.. وظهر جلياً أن لا بد من عبور جسر التغيير للدخول إلى واقع العالم الجديد

4ـ فعلى الصعيد الاقتصادي صدر القانون رقم (10) لعام 91 الذي يعيد الاعتبار للقطاع الخاص ودوره بعد حوالي ثلاثة عقود من المحاربة والاستبعاد يشجعه ويفتح أمامه أبواب الاستثمار في البلاد ويمنحه إعفاءات واستثناءات كبيرة على أمل أن يلعب دوراً في حل أزمات البلاد، التي تفاقمت في عقد الثمانينات ويشكل استجابة لمناخات الليبرالية الاقتصادية الجديدة، واستحقاقات النظام الاقتصادي العالمي والإقليمي. غير أنه بعد كثير من التعديلات على القانون والدعاية الإعلامية والإجرائية له كانت الحصيلة متواضعة، إذ لا شيء تغير في البنية السياسية الحقوقية في البلاد

5ـ وعلى الصعيد السياسي فتحت أبواب السجون.. غير أن ..

6ـ في حزيران 2000 لاحت فرصة جديدة للتغيير مع بداية «! عهد جديد». إذ أمل الكثير في الخارج والداخل بالاستفادة من هذه الفرصة لفتح أفق جديد للاصلاح والتغيير أكثر جذرية وأعمق استجابة للضرورة الموضوعية، التي تعالت الأصوات منادية أن لا سبيل من دونها لإنقاذ البلاد.. لكن سرعان ما أعلنت الأوساط الدولية من مراكز بحث ودراسات ومؤسسات إعلام واقتصاد ودول صديقة عن خيبة أملها في العهد الجديد وأسفها على ضياع الفرصة

7ـ وبعد سقوط بغداد .. دخل التغيير حيز التنفيذ بحوامل خارجية وعسكرية هذه المرة، بعد أن أعلن الأمريكيون أن "الحرية " ستمتد من (طهران إلى دمشق )

8 ـ وامتدت الرياح الجديدة لتلفح الوجوه التي ... ولتفرض عليها حركة مذعورة وقلقة تعلن الرغبة (بالتطوير والتحديث) و (الإصلاح) وتبطن هدف الحفاظ على مصالحها ..

9ـ ثم جاء اشتداد الضغط على البلاد عبر (قانون محاسبة سورية ) وتطبيق العقوبات الأمريكية، ليزيد حالة التردد والارتباك، ويظهر قصور الدولة وإخفاق السلطة .. في عملية إصلاح شاملة، تعمل على تغيير البنية القائمة والأساليب والوسائل المتبعة .. وتساهم في تحصين البلاد لمواجهة الضغوط والاختراقات

10ـ وبعد كثرة الحديث عن (الثوابت) و (التطوير من خلال الاستمرار).. كان الواقع أشد! عناداً ووضوحاً عندما دفع الخطاب الرسمي إلى التزيي بالزي الديمقراطي .. والانتقال أخيراً إلى الحديث عن التغيير السياسي .. لكن بعد أربع سنوات من تجاهل الواقع ومعاندة التاريخ يظهر النظام استجابته (الطوعية أو الكرهية ) للتلاؤم مع متطلبات الخارج دون أن يقدم استجابة من أي نوع لحاجات البلاد ومطالب الشعب

11ـ وما التغيير المطلوب تغييراً للأشخاص والأهداف المعلنة والشعارات على أهميته ..التغيير الحقيقي، الذي يستهدف البنية التي قام عليها النظام .. إن تغييراً لا.. ولا يمس الفكر المؤسس لكل من الدولة والمجتمع .. لن يكون جديراً بحمل اسمه ..

12ـ بلادنا ما زالت مهددة بالضغوط والتدخلات الخارجية.. يقول أرميتاج : «إن الحكومة السورية لم تتعلم درس العراق وسقوط حزب البعث هناك» ويضيف بول وولفويتز:«لا بد من التغيير». إن التغيير الذي تقصده الإدارة الأمريكية غير التغيير الذي يطمح إليه شعبنا.. فالتغيير الديمقراطي المنشود يلتمسه شعبنا طريقاً ثالثاً، لا يقبل استمرار الاستبداد..  ويرفض التدخلات الخارجية ..

ما قيمة الحديث عن «تحصين البلاد لمواجهة الضغوط والاختراقات» إذا كان يريد تغيير الشعارات، والأهداف المعلنة، والبنية السياسية الحقوقية للبلاد، والفكر المؤسس لكل من الدولة والمجتمع، والجيش العقائدي ؟!  الكاتب يريد نفس التغيير الأمريكي، ويريدنا أن ننجزه بأنفسنا دون ثمن من أمريكا . وهذا دأب الترك وافتتاحيات «الرأي»؛ فهو يوحي لنا بالتقاعس عن المقاومة وهي تزين لنا الهروب دون التفات أو توقف لالتقاط الأنفاس. ولكي تمر الوصفة يملأ المقال إيحاءات بأن الديمقراطية هي مطلب أمريكا الملح، وأن السلطة تستجيب لها في هذا المجال بعد تجاهلها الواقع العنيد ومعاندتها التاريخ ورفضها أية استجابة لمطالب الشعب ! . لهذا لفحت ريح الحرب الأمريكية في العراق الوجوه المذعورة فقط . بعد هذا لا شيء يمنع أن يصبح الترحيب بأمريكا موضة عند كل هؤلاء الذين يفتقرون إلى ما يقولونه.

على مبدأ التطريب في الغناء، كرر الكاتب كلمة تغيير ثلاثين مرة عدا العبارات التي تفيد معناها، فلا يكاد يخلو سطر من كلمة تغيير ـ بلا وصف أو إضافة ـ والتغيير مطلوب من الشعب وأمريكا، أما النظام فيتردد في الاستجابة له. إنه تكرار يدعو للنوم على وسادة الضغوط الأمريكية . هذا التكرار التخديري يدغدغ الجانب الانفعالي عند هؤلاء الذين تتدنى السياسة عندهم إلى مجرد وتوتة الجارات على التنور. وهذه سمة من سمات الفكر الاستبدادي الخائف من العقل.

ما الذي يبقى ؟ يبقى أن استجابة النظام «مع الأمريكيين ومن خلالهم مع الإسرائيليين» ليست خياراً بل ضرورة لا سبيل من دونها لإنقاذ البلاد، وأن الرأسمال لم يكتب قراره بالقلم الأخضر بعد إذ أن البنية السياسية الحقوقية لم تتغير، وأن مراكز البحث ومؤسسات الإعلام والاقتصاد والدول الصديقة خاب أملها في العهد الجديد، وأن الأهداف المعلنة والشعارات، ما الذي يبقى بعد سقوط القناع الديمقراطي ؟ يبقى أن استجابة النظام " مع الأمريكيين ومن خلالهم مع الإسرائيليين ليست خياراً بل ضرورة لا سبيل من دونها لإنقاذ البلاد، وأن الرأسمال لم يكتب قراره بالقلم الأخضر بعد إذ أن البنية السياسية الحقوقية لم تتغير، وأن مراكز البحث ومؤسسات الإعلام والاقتصاد والدول الصديقة خاب أملها في العهد الجديد، وأن الأهداف المعلنة والشعارات والفكر المؤسس للمجتمع يجب تغييرها، وأن نار الحرب في العراق لم تلفح وجهه.

وكل هذا معناه أن النظام لم يتعلم درس العراق .

إذا أخذنا بالاعتبار هذه النزعة الاستبدادية المجانبة للشفافية، نستطيع أن نتصور الكاتب، إذا ما أعجبت أمريكا ببرنامجه فوقع الاحتلال، يدعونا إلى الاستفادة من هذه النعمة في نهوضنا، أو إلى التحرير السلمي السليم وتجنب التطرف والإرهاب .

 

■ أكرم إبراهيم