إلى أين يقودنا منظرو الليبرالية الجديدة بخصوص الحدود والسيادة الوطنية؟

تحت عنوان «الحدود الدولية بحاجة إلى إعادة تعريف» كتب فرانسيس فوكس مادة تم نشرها في باب قضايا فكرية على موقع إيكاوس. ومن خلال قراءة المقال الذي نورده أدناه يتبين لنا كيف يسعى بعض المفكرين في الغرب إلى تقديم رؤاهم الناسفة لمفاهيم الحدود الوطنية والسيادة الوطنية من خلال استعراض انتقائي ومتحيز ومجتزأ وحتى عنصري لبعض الإشكاليات والتداخلات الحقيقية القائمة في عالم اليوم دون التطرق لسعي واشنطن المحموم منذ أوائل تسعينات القرن الماضي إلى فرض نسفها لمفاهيم السيادة الوطنية من خلال حروبها العدوانية التدخلية والتفتيتية من يوغسلافيا إلى العراق مع إعلانها مشاريعها التي تتحدث مثلاً عن إعادة رسم الخارطة الجغرافية السياسية للمنطقة العربية.

وبالتالي تصبح الأمثلة والإشكاليات الواردة في هذا المقال أقل أهمية وخطورة من تلك  السياسات الأمريكية وهي ليست من ذاك النوع الذي يقتضي دعوة دول العالم الثالث تحديداً (وهم الشريحة المستهدفة هنا) إلى التخلي عن مفاهيمها الوطنية بناءً على المنطق السلس والانسيابي المعتمد في مناقشة هذه القضية الفكرية والوطنية الحساسة والجوهرية والمبدئية تحت ذرائع المرونة والعولمة والعوالم الافتراضية والسوق الحر والتجارة المفتوحة... إلخ. ولأهمية الإطلاع على طبيعة هذا المنطق نعيد نشر المادة مع كامل التحفظ عليها.

● محرر الصفحة الدولية

عندما نتحدث عن الحدود الجغرافية التي تفصل بين البلدان المختلفة علينا ألا نتوقع أنها تحيل دائماً على ذلك الخط المتقطع الذي عادة ما يطالعنا ونحن نبحث عن مواقع الدول على الخريطة. ففي عصر العولمة والهجرات الجماعية، وظهور تقنيات التواصل الفوري بين البشر ترسم الحدود بين الدول على أساس مختلف ينبني على التداخل الذي تعززه التكنولوجيا المتطورة كما قضايا أخرى متعددة الأبعاد.

ومن هذا المنطلق يحق لنا التساؤل عن الحدود الحقيقية للولايات المتحدة بينما يقوم مفتشو الجمارك الأميركيون بمراقبة الحاويات في ميناء أمستردام. كما يحق لنا التساؤل أين تقف الحدود الوطنية بينما يقوم تجار المخدرات بغسل أموالهم عبر معاملات مالية غير قانونية تنتقل إلكترونياً إلى مختلف دول العالم منتهكة سلطات الكثير من البلدان؟ وكيف يمكن لنقاط التفتيش على الحدود أن تضبط النسخ الإلكترونية المقرصنة لآخر برامج الكمبيوتر حتى قبل أن تعرف النسخ الأصلية طريقها إلى المحلات؟ وهل مازال مفهوم الحدود الوطنية ثابتاً في ظل انتقال مسؤولي الصحة الأميركيين إلى آسيا لتطويق انتشار أحد الأوبئة؟

لقد دأب المواطنون والحكومات معاً على اعتبار الحدود مكاناً ملموساً مثل خط ساحلي، أو صحراء مترامية الأطراف، أو حتى ممر جبلي يفصل بين بلدين. والواقع أنه حتى في ظل احتفاظ الجغرافيا بأهميتها، إلا أن الحدود في عصرنا الراهن تشهد إعادة تعريف، كما يُعاد رسمها على أسس مغايرة لما كان سائداً في الماضي. فلم تعد الحدود ثابتة في المكان، بل أصبحت متحركة يعاد رسمها في كل مرة نتيجة التطور التكنولوجي الهائل والقوانين والمؤسسات الجديدة، فضلاً عن الحقائق الطارئة التي فرضتها التجارة العالمية في شقيها المشروع وغير المشروع. والأكثر من ذلك تحولت الحدود إلى كيان غير ملموس تتبلور على امتداد الفضاءين الافتراضي والإلكتروني. وبهذا المعنى لم تعد الولايات المتحدة مجاورة فقط للمكسيك وكندا، بل هي تتاخم أيضاً الصين وبوليفيا.

هذا التحول في طبيعة الحدود جعل من مهمة حمايتها سواء بأجهزة الاستشعار المتطورة، أو بنشر قوات الحرس الوطني أمراً بالغ الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً. ويعزا التغير الذي طرأ على طبيعة الحدود إلى الاندماجات السياسية بين البلدان والإصلاحات الاقتصادية، علاوة على الفتوحات التكنولوجية التي أدت مجتمعة إلى تثوير مفهومنا عن الحدود خلال عقد التسعينيات من القرن المنصرم.

فقد عرفت تلك السنوات توجهاً عالمياً نحو اقتصاد السوق الحر، بعد أن شعر القادة السياسيون من أميركا اللاتينية إلى أوروبا الشرقية بإمكانية تحقيق الرفاه الاقتصادي عن طريق تشجيع الاستثمارات الأجنبية وحث السياح على زيارة بلدانهم، وفتح المجال أمام عمليات التصدير والاستيراد، فضلاً عن السماح للمصارف بتحويل الأموال إلى داخل البلدان وخارجها، ودعم القطاع الخاص دون عراقيل.

وشهد عقد التسعينيات أيضاً إقدام بعض الدول على تفكيك حدودها أو إعادة ترسيمها إما عبر الوحدة السياسية، أو اتفاقيات التجارة، رغم العداوة التاريخية التي كانت تطبع علاقتها في السابق.

وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى مثال الاتحاد الأوروبي وانضمام البرازيل والأرجنتين وباقي دول جنوب أميركا إلى اتحاد جمركي موحد، فضلاً عن توقيع كل من المكسيك والولايات المتحدة وكندا اتفاقية مشتركة للتجارة الحرة.

وفي الوقت نفسه كانت التكنولوجيا المتطورة تقلص التكلفة الاقتصادية للتباعد الجغرافي، حيث انخفضت أسعار شحن البضائع إلى الخارج، ولم تسبقها سوى تكلفة إرسال البريد الإلكتروني، وإجراء المكالمات الهاتفية عبر الحدود. ومع المرونة التي باتت تطبع الحدود الدولية تعاظمت فرص تحقيق الأرباح، كما انتعشت الأنشطة الحدودية. وفجأة أصبح المستثمرون يتجهون إلى تايلاند، وبات ممكناً زيارة الصين، أو المتاجرة في العملات الأجنبية. وتطور الأمر ليصبح في مقدور الأشخاص الحصول على وظائف موسمية في بلدان مختلفة، وتحميل برامج الكمبيوتر المقرصنة من مواقع الإنترنت.

ولم يقتصر الأمر فقط على تهريب السلع الأجنبية وتزويرها ومن ثم نقلها عبر الحدود، بل امتد التهريب ليطال البشر والحيوانات المهددة بالانقراض.

وفي ظل هذه التحولات بدأت تتجلى علاقة غير متكافئة بين عجز الحكومات عن حماية الحدود وضبطها وبين سهولة اختراقها من قبل المنتهكين. فقد أصبح من السهل على أي شخص يريد عبور الحدود أن يقوم بذلك، بينما تتخبط الأجهزة الحكومية في جهودها لضبط العالم الجديد الذي ساهمت هي بنفسها في خلقه. والأكثر من ذلك أن عملية اختراق الحدود وعبورها بشكل غير قانوني لم تعد مقتصرة على المعابر والحواجز فوق الأرض، بل امتدت إلى الفضاء الافتراضي من خلال الشركات الكبرى والمؤسسات المالية الدولية.

فعلى سبيل المثال عندما يرسل أحد المهاجرين المقيمين في الولايات المتحدة بطاقته الائتمانية إلى عائلته في بلده الأصلي لسحب المال من حسابه المفتوح في أحد البنوك الأميركية، أين تتم العملية المالية بالضبط؟ هل عبرت العائلة الحدود لتسحب المال من أميركا؟ أجلْ، لقد فعلت ذلك بمعنى من المعاني، بحيث أصبحت آلة الصراف الآلي نموذجاً دالاً على اختراق الحدود على نحو قانوني.

يضاف إلى ذلك أن المؤسسات الدولية تساهم هي الأخرى في إعادة رسم الحدود الدولية وتحويلها من طبيعتها الثابتة إلى أخرى متحركة ومرنة. فعندما اتفقت الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية على خفض نسبة الرسوم الجمركية على البضائع اهتزت قناعاتنا السابقة حول سيادة الدول وقدرتها على التحكم في حدودها بشكل مطلق، ذلك أنه في التجارة بين الدول يتم رسم الحدود في مقر منظمة التجارة الدولية بجنيف، وليس في مقر حكومات تلك الدول.