الاستقواء بالحضيض (ج4)

هناك فرق بين ألا نتصالح مع نظام وطني لكنه قمعي وفاسد وبين ألا نكترث بتغيير «يلبي احتياجات السياسة الأمريكية في عصر العولمة، ويهدف إلى إدخال إسرائيل في بنية المنطقة، وإعطائها دوراً أكبر في صياغتها والتأثير فيها». في الحالة الأولى يكون مسعانا إلى نظام وطني وديمقراطي في آن واحد، لأن إنجاز النزعة الوطنية المجافية للديمقراطية أقل من القدرات المتاحة. وفي الحالة الثانية لا يكون الهجوم على الاستبداد إلا لتمرير أفكار خطرة على النزعتين الوطنية والديمقراطية، فهي استغلال لآلام الناس وسرقة لشعاراتهم يفضحها الخطاب والممارسة والرجال والتحالفات.

ففي العدد 33 من الرأي نأخذ علماً أن التغيير إثر سقوط الاتحاد السوفياتي وتبدل النظام العالمي لم يعد خياراً بل ضرورة موضوعية وأن النظام السوري بدأ «خطوات وئيدة للتلاؤم مع الواقع الجديد عبر انخراطه ضمن التحالف الأمريكي في حرب الخليج الأولى، واستجابته لعملية السلام في مدريد، وخطواته المحسوبة مع الأمريكيين ومن خلالهم مع الإسرائيليين على طريق استكمال مشاريع التسوية في المنطقة».

فالتغيير هو نتيجة تغير الظروف الدولية لغير صالحنا، وهذه الخطوات الوئيدة والمحسوبة مع الأمريكيين ومن خلالهم مع الإسرائيليين لم تعد خياراً بل ضرورة موضوعية. لكنه ما لبث أن عبر عن ولعه العميق بها إذ قال: «وما التغيير المطلوب تغييراً للأشخاص والأهداف المعلنة والشعارات على أهميته.. التغيير الحقيقي، الذي يستهدف البنية التي قام عليها النظام ..

 إن تغييراً لا يمس الفكر المؤسس لكل من الدولة والمجتمع .. لن يكون جديراً بحمل اسمه». فهو لم ينكر صدق النظام في شعاراته وأهدافه المعلنة بل تحمس لتغييرها وتغيير الفكر المؤسس لكل من الدولة والمجتمع . فهو لم يعد مضطراً للمزايدة بعد أن أجهزت سياسته مع الفساد والقمع على القيم العامة. 

يكرر الكاتب عدة مرات وبصيغ مختلفة عبر افتتاحية العدد 34 أن العلاقة بين الجانبين السوري والأمريكي لم تكن دائما آمنة ومريحة، وأن الدور الإقليمي لسورية يتآكل، وأن النظام  السوري في حالة دفاع وتراجع مستمر أمام الضغوط .

وهو يفعل ذلك ببرود وحياد وعدم اكتراث؛ لأننا كمواطنين غير معنيين ولن نحصد ثمار هذا التراجع أو الرضوخ. الأنكى أنه  يلجأ منذ الأسطر الأولى إلى هذا الإيحاء بخصوص العلاقة مع إسرائيل عندما يقول: «تعرضت السياسة السورية لقطوعات هامة مثل احتلال بيروت وحرب الجبل واتفاق 17 أيار.. جرى التجديد لـ«شرعية» الوصاية السورية على لبنان بعد تآكلها في القطوعات السابقة، عبر الموافقة الأمريكية على طرد «ميشال عون». فالسياسة السورية في لبنان والوصاية السورية عليه شيء واحد. وهذا الشيء تعرض لقطوعات وتآكل بسبب احتلال بيروت وحرب الجبل واتفاق 17 أيار».

الكاتب لا يرى في كل هذا إلا القطوعات، وهو بهذا الشكل يوحي أن لبنان مهدد من القوتين الإقليميتين سورية وإسرائيل، وأن حرب الجبل من أجل إسقاط اتفاق 17 أيار كانت مجرد صراع وصاية على لبنان، فتصبح سورية (عبر السلطة) مجرد قوة إقليمية مثلها مثل إسرائيل على الرفاق أن يتعاملوا معهما بالإحساس نفسه.

وهو ينكر على السلطة أن  يأتي تعديلها للمادة 49 تحدياً للإرادة الدولية التي عبر عنها القرار 1559، ثم يعترف بأن هذا القرار «يدخل كجزء من عملية ترتيب المنطقة وفق حاجات النظام الدولي الجديد بقيادة أمريكا»، ثم يقول بعد أن يستعرض صلف مساعد وزير الخارجية الأمريكية، في سورية  أن السلطة «تتجاهل الحقائق الجديدة في المنطقة وميزان القوى والمتغيرات فتستخف بإرادة اللبنانيين وتجربتهم الديموقراطية». تجاهلت فاستخفت، وكان من الأجدر بها ألا تحاول عرقلة هذا القرار.

هذه المواقف ليست ثأرية أو تقاطع عابر للمصالح، بل هي ثابتة مؤسس لها في موضوعات المؤتمر السادس للحزب . ففي هذه الموضوعات كثير من الهجوم على الروح الوطنية تحت ستار الهجوم على الاستبداد، فهي إضافة إلى ما ذكر تعود إلى مرحلة الاحتلال الأوروبي لتأسى وتأسف على قمع الاستعمار لنزعتنا الوطنية، ففي ص 15 نقرأ: «أقرب موقع يمكن للرأسمالية العالمية استثماره وإنهاضه كان في منطقتنا»؛ فالاحتلال الرأسمالي كان استثمارا مولداً للنهوض وليس نهبا. لذا كان من المفترض أن نكون أول المستفيدين من هذه النعمة، لكن ويا للعجب حدث أن «استمرت أزمة التحديث المستعصية" في حقبة الاستعمار. كيف؟» لم تأل البنى الكولونيالية جهدا من أجل إقحام التحديث قسرا على البنى المحلية القديمة، ونجحت في ذلك إلى حد ما، فيما يخص البنى الحيادية للدولة، في الري والمواصلات والتعليم وتنظيم الدولة وتحديث القوانين المدنية وتشجيع الليبرالية السياسية من طريق القوى الطبقية السائدة؛ في حين فشلت في مواجهة الوطنية الناشئة التي أسهمت هي بذاتها في بلورة سماتها الجديدة في البداية .

قمع هذه الوطنية وحدة الصراعات على الأرض العربية، جعل من المستحيل نجاح تلك المحاولة القاصرة للتحديث، ووجه القوى بقوة وإلحاح نحو الاستقلال، كطريق وحيد ممكن نحو التقدم" ف " كان ذلك تناقضا مصيريا ما زلنا ندفع ثمنه " ص16.

سواء أمل الكاتب باستعمار لا يقمع أم بشعب لا يقاوم فهو يضللنا. لكن ما دامت المقاومة المسلحة فعل قلة متطرفة والتحرير السلمي هو التحرير السليم، ومادام مولعاً بثقافة الحياة والسلام، تصبح الدلالة: لولا نزعتنا الوطنية لما قمع الاحتلال هذه النزعة، لما توجهت قوانا بقوة وإلحاح نحو الاستقلال، فلا يبقى بعد ذلك سوى إقحام التحديث قسرا ونجاح تلك المحاولة القاصرة للتحديث وترعرع الوطنية الناشئة، أي كنا أصبحنا اليوم أوربيين بعيون زرق دون ثمن وتناقضات مصيرية.

إنه استثمار لما هو شائع بين الجهلة، فهم لا يدركون لأي سبب كانت هذه المنشآت؛ فالاحتلال الفرنسي مثلا أنشأ قناة للري في حمص، لكن العجائز يروون قصصاً عن الدرك المختص بمصادرة القمح والشعير من الناس الجائعين، ليجمعوه من ثم من روث الخيول الفرنسية. أما المواصلات فلسهولة تنقل قواته ومنتجاته وثرواتنا المنهوبة . وأما التعليم فلإنتاج أمثاله ..

 

■ أكرم إبراهيم