فرنسا مرة أخرى: لا يمكن عزل الديمقراطية عن محتواها الاجتماعي

على الرغم من أن البرلمان الفرنسي قرر تمديد حالة الطوارئ التي أعلنتها الحكومة مطلع الشهر الجاري ثلاثة اشهر أخرى بما يدلل على أن الوضع لا يزال متوتراً في فرنسا ولاسيما في أحيائها الفقيرة، أعلنت الشرطة الفرنسية عودة الوضع إلى طبيعته في كل أنحاء فرنسا وذلك بعد ما أسمته الحكومة الفرنسية أعمال عنف غير مسبوقة استمرت ثلاثة أسابيع في ضواحي باريس وامتدت لعدد من المدن الفرنسية طارحة جملة من التساؤلات حول عدد من القضايا تبدأ بنموذج دمج المهاجرين في فرنسا ولا تنتهي عند نمط توزيع الثروة وسلطة الاحتكارات والأطر الديمقراطية المرافقة لذلك.  

خسائر بشرية ومادية وتصريحات عنصرية

ويقدر الخبراء خسارة فرنسا بمئات ملايين اليورو بما فيها إحراق تسعة آلاف سيارة وعشرات المباني ناهيك عن عشرات الإصابات في صفوف المنتفضين والشرطة وعناصر الإطفاء على حد سواء.

وقد حكم على قرابة 400 «مشارك بأعمال العنف» بالسجن حيث صدرت العقوبة الأقصى في حق شاب اتهم بإحراق متجر كبير، وتمثلت بالسجن لمدة أربع سنوات في حين تم طرد عشرة أجانب متهمين بالمشاركة في الاحتجاجات الدامية.

سياسياً، أظهرت استطلاعات أن اليمين الفرنسي كان المستفيد الأكبر من هذه الأزمة وخصوصا وزير الداخلية نيكولا ساركوزي المرشح المعلن للانتخابات الرئاسية في 2007 اثر تصعيده تصريحاته العنصرية شديدة اللهجة التي وصف خلالها المنتفضين بالأوغاد.

أحداث باريس وتراث ألبير كامو

الكاتب أحمد الخميسي رأى أن «أحداث العنف» هو التعبير الذي يخفي بذكاء جوهر أي تمرد اجتماعي أو وطني أو سياسي، وبعبارة أخرى فإنه التعبير الذي يستبعد من كل حادثة طرفي الصراع، وقضيته، بحيث تبدو أحداث العنف تلك كالأمطار التي تنهمر بلا تاريخ ولا مغزى.

ويتابع الكاتب إن حادثة مقتل شابين مهاجرين تطاردهما الشرطة شكلت شرارة ما جرى في فرنسا (..) ولكن تلك الحادثة الصغيرة أحجبت غضب وثورة الآلاف في الضواحي البائسة التي حرم سكانها من الخدمات وفرص العمل والتأمينات الاجتماعية والتعليم، وانتشرت بينهم المخدرات والجرائم والبطالة، علاوة على شعورهم المتصل بالتمييز العنصري. ويشكل المهاجرون الذين فجروا الأحداث ثمانية بالمائة من تعداد السكان في فرنسا، لكنهم لا يتمتعون لا بالمواطنة، ولا بالحق في التصويت، كما يعانون من أعلى معدلات للبطالة. ولا يمكن لفرنسا أن تدعي أن أولئك المهاجرين عبء عليها، لأن فرنسا تعيش في واقع الأمر بفضل قيام أولئك المهاجرين بكل الأعمال القذرة مقابل أجور بخسة.

وتأتي هذه الهبة لتعري حقيقة الأوضاع الاقتصادية في فرنسا – ثالث أكبر اقتصاديات أوروبا - حيث يعاني من البطالة نحو ثلاثة ملايين شخص، وحيث سحبت الدولة كل الموارد المخصصة لبرامج التأمينات الاجتماعية، إلي أن زادت معدلات الفقر والتضخم، وأصبح العجز المالي يعادل نحو 4 % من الناتج المحلي الإجمالي متجاوزا السقف الذي يفرضه الاتحاد الأوروبي للعجز، وتراجعت الصادرات، دون نمو حقيقي في الإنتاج.

ومن الطبيعي في ظل هذه الظروف أن تشير الإحصائيات الفرنسية إلي وجود 751 منطقة فقيرة يسكنها خمسة ملايين شخص في فرنسا.

ويضيف أن المسألة إذن ليست «أحداث عنف»، لكنها انتفاضة سقط فيها الضحايا والقتلى من الجانبين، ولم تعرف فرنسا مثيلا لها منذ نصف قرن، كما أن آثارها وعواقبها مستقبلا مازالت غير محسوبة.

إلا أن ما تطرحه هذه الانتفاضة، هو العلاقة بين الديمقراطية الغربية، والقضية الاجتماعية. فقد عرفت فرنسا البرلمان عام 1789، أي منذ أكثر من مائتي عام، ومع ذلك فإن «أحداث العنف» تبين أن عزل الديمقراطية عن القضية الاجتماعية لا ينتهي إلا بذلك الفشل الذريع الذي أوشك أن يحول باريس من عاصمة للنور إلي عاصمة للنار . لا البرلمان العريق، ولا الأعداد الضخمة من الصحف، ولا جمعيات حقوق الإنسان والحيوان، ولا الأحزاب المتعددة، ولا حرية التعبير، استطاعت أن تنفي أن الأزمة هي أزمة العدالة، وأن الديمقراطية إذا لم تكن سبيلا ووسيلة إلى العدالة تصبح مجرد ديكور تتزين به الجماعات السياسية، ويتزين بها المجتمع لكي يخفي طرفي الصراع، وقضيته.

ويخلص الخميسي إلى أن الأديب الفرنسي المعروف ألبير كامي كتب ذات يوم يقول : «إذا فشل الإنسان في التوفيق بين العدالة والحرية فسوف يفشل في كل شيء». وقد فشلت باريس مدينة النور، والثقافة، والموسيقى، والديمقراطية ، والبرلمان ، والـ...

دعوات لفتح الحوار

برنار تيبو، السكرتير العام للاتحاد العام للعمّال في فرنسا CGT قال في سياق انتقاده الأداء الحكومي إبان الانتفاضة: «حين يرفض المرء في دولة ديموقراطيّة أن يأخذ بالاعتبار ما يجري التعبير عنه بمظاهرات شوارع منظّمة في إطار ديموقراطيّ تجمع أكثر من مليون شخص، حين يرفض الاستماع كما ينبغي للشعارات التي ترفعها الإضرابات، حين يرفض تفسير النتائج بعد استشارات ديموقراطيّة سياسيّة، فهذا يأتي بالكثير من الأمور التي تغذّي الشعور بأنّه يرفض سماع ما يريد الناس قوله».

كلنا نحترق إذن.. وليست باريس وحدها!

تحت هذا العنوان رأى الكاتب الأمريكي جيم هوغلاند أن الفرنسيين والشباب العربي والأفريقي هم أيضا «ضحايا لسياسات الهجرة والدمج المتبعة، وبطريقة غير مباشرة، لنظام الضمان الاجتماعي الوصائي، وهم ضحايا نوعية معينة من غرور التصحيح السياسي، الذي مارسه السياسيون الفرنسيون لمدة 30 سنة.

ويضيف أن فرنسا وعاصمتها الجميلة التي تتعرض لمشاكل هي نموذج لكل الدول الثرية التي حولت أسلوب تجاهل فقراء العالم إلى فن. فالإهمال الجماعي بهم دفعهم ليتجمعوا معا، فيصبح المحرومون ضحايا للمجرمين والمتطرفين الأصوليين أو متواطئين معهم. وبهذا المعنى نحن جميعا فرنسيون الآن، إنها ليست باريس التي تحترق، إنها أفريقيا والشرق الأوسط وأجزاء من آسيا وأمريكا اللاتينية، التي تحترق في غيتوات باريس، وفي لندن ومدريد ونيويورك وبالي والدار البيضاء.

فقد ساعد إعصار كاترينا الأمريكيين على فهم تفصيلي للعجز القائم على المستوى المحلي والفيدرالي في الرد على حالات الطوارئ بسبب البيروقراطية. ويجب أن توضح أعمال الشغب في فرنسا للفرنسيين، الطبيعة المميتة لمعمار المباني العملاقة التي تحيط بالمدن، التي تضم في رحابها ما بين 5 إلى 10 ملايين مهاجر مع أبنائهم، ثم يخدعون أنفسهم وكأنهم غير موجودين هناك.

هناك ما يقرب من 300 منطقة مخصصة في ضواحي باريس والمدن الكبيرة الأخرى للمهاجرين، حيث كف رجال الشرطة عن الوصول إليها منذ فترة طويلة. بدلا من ذلك طوروا نظام نقاط التفتيش حول هذه الجزر الخالية من الحياة المتميزة بارتفاع أبنيتها الموحشة، ثم جعلوا السكان يدافعون عن أنفسهم بأنفسهم.

هذا صحيح، غير أن تعصب الآخرين ليس كل شيء.

فإعانات العاطلين عن العمل التي يوفرها نظام الرعاية الاجتماعية الفرنسي السخي لأولئك الشباب، قد يساعد على شراء الملابس والحاجات العصرية الأخرى التي يعرضها كثير منهم في المقابلات التلفزيونية، لكنها لم تستطع أن توفر لهم قناعتهم بالنظام الذي يغذيهم ويعزلهم.

ديمقراطية الطوارئ

بالعودة إلى فرض حالة الطوارئ في فرنسا فإن نظام فرض حظر التجول يطبق في أربعين مدينة فرنسية، وهو إجراء استثنائيّ صدر في حالة  قيام خطر وشيك وجرى تبنّيه في الثالث من نيسان 1955 في خضمّ الثورة الجزائريّة.

ويقول نصّ القانون: «يمكن إعلان حالة الطوارئ (...) إمّا في حالة خطر وشيك ناتج عن انتهاكات خطيرة تمسّ النظام العامّ، أو في حالة أحداث تتّخذ بطبيعتها أو بما تنطوي عليه من أخطار طابع الكارثة العامّة (فيضانات، زلازل، ...) ».

لا يمكن إعلان حالة الطوارئ إلاّ في مجلس الوزراء ولمناطق محدّدة، ولمدّة اثني عشر يوماً فقط. أمّا تمديد المهلة أكثر من ذلك، فيتطلّب أن يسمح به قانونٌ يصوّت عليه البرلمان. وإذا استقالت الحكومة، أو إذا جرى حلّ المجلس الوطنيّ، يصبح القانون الذي يسمح بالتمديد لاغياً في مهلة خمسة عشر يوماً.

وبينما يتضمّن القانون درجتين من حالة الطوارئ يستطيع وزير الداخليّة «فرض الإقامة الجبريّة» على شخص "يتبدّى في نشاطه خطرٌ على الأمن والنظام العام".

 

كما يستطيع أن يقرّر إغلاق صالات العرض وأماكن الاجتماع والبارات ومنع التجمّعات، أو الأمر بتسليم الأسلحة والذخائر. وفي حالة تفاقم الوضع، يمكن للوزير السماح بملاحقات ليلاً نهاراً، لا بل بمراقبة الصحافة.