الأزمات جعلت السلطة عارية
ثمة ثلاث أزمات كبرى تهز العالم، ولا يمكن اختصارها إلى موضوعات، يمكن عدم الاهتمام بها: الذعر الكبير المالي، الذي انتشر منذ أواخر 2008، وحادث فوكوشيما النووي، الذي انطلق في 11 آذار 2011، وأزمة النظام في عدد من الدول العربية، حيث الشعب يثور منذ 2010.
سلفاً ليس من المنطقي مقارنة تلك الأزمات فيها بينها، لأنها تخص مجالات مختلفة جداً. الأولى تبدو أنها تحدث في عالم افتراضي، وتتعلق بآلاف مليارات الدولارات من العملة الخطية، التي تبخرت، والثانية تنشأ من حادث كبير لتكنولوجيا هادفة لإنتاج طاقة غزيرة، والثالثة تنجم عن انتفاضة شعبية كبيرة ضد دكتاتوريات عسكرية. ولكن ليس من الشذوذ أيضاً ضم كوارث صرفة، الأولى هي نتيجة «انتصار الجشع» الثانية نتيجة كارثة طبيعية غير متوقعة، إلى انقلاب عام يأخذ اتجاه، «ربيع الشعوب».
مع ذلك، تلك الأحداث المتميزة عن بعضها تتقارب في عملية زعزعة النظام الرأسمالي العالمي. وهذه المحصلة يمكن ألا تكون فوضى شاملة، يعلن عنها كونسرتو منيرة من اللاعنين، وإنما هو تطور تحرري- هي «مخاض للتاريخ»، باستخدام المجاز الماركسي الكلاسيكي.
إن تلك الأزمات لها ثلاث نقاط التقاء: إنها تضعف الأعمدة الأساسية لنظام، الأساس المتعلق بالطاقة لديه، ونموذجه في توجيه العمل الإنساني بالمال، وحاجته للاستقرار السياسي، وخصوصاً في ريف المراكز الليبرالية. وتظهر في كل من تلك المجالات نفس اسلوب الأفراط، الذي يؤدي إلى خطر تكنولوجي غير مقبول، أو إلى المحذور الحالي، العصي على السيطرة أو إلى السوط السلطوي الذي لا يطاق. وتكشف عن قدرة التوجهات التي تناقض الحفاظ عليها: ديناميكيات، طبيعية، ومقاومات إنسانية لمجتمعات كاملة تطعن في عبودتيها للفوضى الإدارية، وللتلوث، وللسلطات الفاسدة.
في المقام الأول، جملة متلازمة من الشروط الضرورية لبقاء الميكانيسم المسيطر قد اهتزت ووضع الإنسان والطبيعة تحت السيطرة والاستثمار الأفضل للسوق بأفضل ردود ممكن.
فالسيطرة المالية على الاقتصاد لا تتيح فقط الفرصة للهذيان بالمضاربة: وإنما تنظم النشاطات الإنسانية في منطق الريعية. فالاقتصاد الافتراضي لا يؤلف ضلالاً بمقدار ما هو حقل مناورة للسلطة العالمية القادرة على نقل المصانع والعمال، وعلى خلق الاقتصادات «الناشئة»، امبراطوريات الورشات، والمكاتب القارية، وعلى البناء على إنتاجيتها، وتطوير استهلاك أسير يجعلها ضرورية بشكل لا يمكن الرجوع عنه، وبكلمات أخرى، التمويل غرضه إقامة كادرـ باهظ الكلفةـ لاقتصاد عالمي. إذن وضعه في أزمة، في فقاعات ضخمة من عدم الملاءة يجرده من القدرة على التحكم العام في النظام بالعمل الإنساني.
عدم توقع وذعر
من دون البترول- رغم أنه أغلى بثلاث مرات عنه في عام 2000، وبعشر مرات عنه في 1990ـ يجب أن نقسم الإنتاج الغذائي العالمي على أربعة. البنية التحتية، التي ما تزال تقدم طاقة رخيصة لا تستطيع أن تستغني عن أي من مصادرها الأحفورية، حيث كل قطاع موجه نحو استخدامه المفضل: فالنووي نحو الإنتاج الصناعي والفحم المال والغاز يفضلان في الغد للتدفئة، والبترول مخصص بوجه رئيس لتنقل مليات الكوى من العربات.
واهتزاز الشبكة النووية (والتخلي عنها في ألمانيا هو في الأفق عام 2022) ليس فقط درساً يدفع إلى إعادة توجيه /14%/ من الإنتاج الكهربائي العالمي نحو الرياح أو الطاقة الشمسية، أو الطاقة الحيوية، وإنما أيضاً هو هجوم على قطاع رئيسي للميكانيسم الشامل.
في أوربا ديمقراطيات السوق. التي من المفترض أن تديرها دولة القانون جعلت نفسها متواطئة في سحق الحريات السياسية في جملة من البلدان المحيطة بها: فمن دون ذلك، ثمة مئات ملايين الأشخاص في اعتقاد «الديمقراطيين» يتعرضون لجاذبية شديدة من سوق العمل البعيدة عن أماكن حياتهم، وثمة نزاعات اجتماعية ودينية تعلن عن إمكانية عولمة سهلة للمبادلات تأتي في اي وقت.
نفس الديمقراطيون أنفسهم استطاعوا أن يروا في ثبات الأنظمة المعتبرة تلميحاً «معتدلة» متراساً ضد النزاع العالمي، الذي يجد مصدراً له في مخزن البارود الشرق أوسطي. ولذا المطالب المشروعة للشعوب المنتفضة لم تثر فقط عرضاً عفوياً بالتضامن (كما في ليبيا)، وإنما أيضاً قلقاً كبيراً مموها قليلاً أو كثيراً بالانتهازية.
إذاً ليس غريباً أن تستدعي تلك الأزمات المؤسسات الدولية العليا، ولا أن تدخل في تزاحم فيما بينها من أجل تسويتها. وكما قال الخبير الكاليفورني نجم الدين شكاتي بخصوص حادث فوكوشيما: «هذا يذهب إلى أبعد بكثير من إمكانية السيطرة عليها، هذا يجب أنه يثار في مجلس الأمن(...). إنه أهم من منطقة الحظر الجوي فوق ليبيا».
في المقام الثاني، هذا العجز المثلث في النظام يدل كل واحد منه على نفس اتجاه النظام في «قسر» مجرى الأشياء: قسر العمل الإنساني بالإجبار المالي، وقسر الطبيعة بالتكنولوجيا المدمرة، وقسر الحياة السياسية بتأطير الجماهير عندما لا تكون بعد منضبطة بالمنطق التايلوريني (الذي كان ولا يزال الوجه الأخر المدني للانضباط في الجيوش). الصناعة المالية تعسفت في استخدام كفالة الدول الليبرالية، لكي تستفيد من الدين العام، وتتلاعب بعروض الاعتماد، وتورط المدنيين في عقود شديدة الإجحاف، أو في فخاخ غير مرئية.
أما الأنظمة الشمولية، فتلصق إعلاناً عن طبيعتها على بزتها العسكرية، على سجونها السياسية وعلى «الحالات الاستثنائية لديها»، وفي غرور طبقاتها العائلية الاحتكارية. ثم الصناعة النووية تحيط نفسها منذ البدايات بثقافة أمنية، بوليسية وأيضاً عسكرية، لتفرض خياراتها باسم المصالح الوطنية الاستراتيجية.
وفي الحالات الثلاث ايضاً يستخدم النفاق أداة للإدارة اليومية فبعد إخفاء النقاط الضعيفةـ استحالة «تصكيك titriser» الديون دون أفلسة النظام المالي، وضرورة تبريد المركز النووي بشكل دائم، والانفصال الحتمي بين الشعوب وأجهزة الأمن- يجري تمويه حجم الخسائر.
برنامج شراء الإيجابيات المصرفية في الولايات المتحدة، الذي تم التصويت عليه في تشرين الأول 2008، لا يصل إلا إلى /300/ مليار دولار (وإلى كلفة نهائية /25/ مليار على دافعي الضرائب)، وهذا أقل من عشر الخسائر الحقيقية، وكارثة فوكوشيما النووية، كانت وتبقى مصغرة وفق، المجموعة المدمرة تبكو Tepcok، والسلطات اليابانية والدولية، حتى بعد ما نسب إليها درجة خطورة تعادل درجة خطورة تشيرنوبل، ودون الحديث عن الاختفاءات، وعمليات التعذيب والاعتقالات وسوء المعاملة من كل نوع، المتجاهلة كلها لدى أجهزة الإعلام في الأنظمة الأميرية، أو الدكتاتورية العسكريةـ البوليسية، التي ما تزال تعتبر «معتدلة».
تلك المبالغات أصبحت تكشف حدها المشترك. عدم التوقع، والذعر، الشلل، كل ذلك يظهر ويدوم، رغم التأكيدات التي لا أساس لها، والعناد في الخطأ. إن عدم القدرة على التفكير يرافق كالظل تلك الرغبات بفرض النظام رغم كل منطق: فإذا بنيت صناعة نووية، لا تستطيع تضمينها سلفاً استعداداً لحادث كبير، تستبعد مجرد احتمال وقوعه (بمساعدة حساب الاحتمالات). مثلاً فرنسا والمملكة المتحدة، رفضتا تضمين العمليات الإرهابية في اختبارات مقاومة المفاعلات النووية الأوربية.
في عالم المال، إذا كنت تؤمن بالسوق (الذي تعيش فيه) لا تستطيع أن تفكر كفقاعة، اي اندفاعة ستجعله «تنتحر». لكن بعد أقل من قرن على الأزمة الكبرى الأخيرة، وتماماً كما توقعها الاقتصادي جان كنيث غالبريث. أما النخب الدكتاتورية، فيبدو أنها لا تستطيع حتى اللحظة الأخيرة أن تتصور أن هوة سوف تفتح تحت قصورها، وأن امتيازاتها يمكن أن تلغى على يد الشارع (الذي تحتقره) وفي الوقت نفسه عبر تجميد ممتلكاتها، التي نقلت بعناية إلى الخارج. وإذا ما أخذنا في الاعتبار استحالة تسوية المشكلات، فإن الشبه بين الأزمات النووية والمالية يصبح أشد وضوحاً فكما لاحظ الاقتصادي بول جوريون، فإن الأزمة المالية تشبه فوكوشيما: في إحداها يجري تيار الماء باستمرار لتبريد المفاعل، الذي اصيب بالحادث، وفي الثانية يجري استمرار الحقن بالمال، من أجل تخفيف أو إخفاء انفجار الفقاعة.
وكما يصبح من العبث لزمن طويل إخفاء وامتصاص مستوى الدين الذي أدى إلى الإفراط في خلق العملة الاعتمادية، لأن تلك الخسائر تقع دوماً على عاتق دافعي الضرائب، يصبح من المستحيل تسكين الانتشار العالمي (بالجو والبحر والمنتجات المصدرة) للمواد المشعة لمدة طويلة، مثل السينريوم، أو البلوتونيوم شديد السمية، لأن أحد أحواض عدة مفاعلات تبين أنها مثقوبة وفي الوقت نفسه لا يمكن إخفاء أن اليابان اليوم، بعيداً خارج مناطق الإخلاء مهددة بأعطال جديدة في مفاعلات فوكوشيما، بسبب حالة مراكز جديدة تزعزعت بالهزة الأرضية، والنشاط الإشعاعي الذي يقلل من شأنه، ويغمر التربة والمنتجات الزراعية والحاويات وملايين الأشخاص الإضافيين يتأثرون بتفاقم الأزمة الاقتصادية والبطالة التي تنجم عن ذلك.
حتماً القسر المالي والتكنولوجي والبوليسي باق. بل يستفيد من تضامن الهيئات المعولمة: المؤسسات النووية تقرر في كل مكان في العالم ما يمكن أن يكون معروفاً وقود اللوبيات (مجمع لوبي) الآلية تحول دون الحد من سلطتها في توجيه المستقبل، النجدة المشتركة للأنظمة الشمولية.(..)
إيديولوجية في انحدار
مع ذلك فإن إستراتيجية قسر العالم لم تعد قادرة على القيام بوظيفة إيديولوجية شاملة. لم تعد تبدو كضرورة، كشر لابد منه، وتنكشف على حقيقتها، نموذجاً للحكم الكيفي، الخطر النهاب، الذي في خدمة ثلاثة أنواع من عوامل السيطرة على حساب حرية امتلاك المرء لعمله، والتمتع بالطبيعة الحية دون تدميرها (الهدف الحقيقي للاقتصاد حسب المختص بالرياضيات والاقتصاد الحيوي- نيكولا جورجكو- روجن). والمشاركة من دون عوائق بالمجتمع السياسي الإنساني. وعلى تصالب الأزمات الثلاث، التي تبين الإرغام نفسه المفرط للمال وللتكنولوجيا وللسلطة أصبح الرد هو انتظار «ثلاثة تحررات»: تحرر العمل الإنساني، الذي لم يعد الأمر بالنسبة له تغيير مكانه، وتجميعه، وتوجيهه ليوفر الربح الأعظمي، وإنما تنويعه بمنطق استقلالية أكبر، وتحرر الطبيعة، التي لم يعد الأمر بالنسبة لها إيذائها والإضرار بها لتعطي منفعة عظمى، ثم تحرر المشاركة الحرة في الحياة السياسية لـ«الشعب العالمي» الذي هو في الوقت نفسه ضد سوط الأنظمة العسكرية (أو الفتاوى الإرهابية، التي تطعن بها أكثر فأكثر في العالم الإسلامي) وضد الانكفاء وكره الأجانب، الذي يشعر المرء بأنه يتنامى في الغرب، الموطن المفترض لليبرالية.
في كل تلك المحاولات تستقر معركة أفكار رهيبة، خصوصاً في الخلفية ويتبين أيضاً أن من الصعب خوضها في قطاع الطاقة، كما في قطاع المال، حيث كل الأشخاص يجب أن يدخلوا إلى خفايا عمل الأسواق، ولكن تتصاعد في الطبقات الأوسع رغم العوائق. إن الشعور بأن يعيش المرء بشكل يختلف، بشكل أبسط وأكثر حرية، اصبح يتأكد في وجه الخبراء، دون أن يحذف مباشرة كأمر عدواني وغير قابل للتحقيق.